عندما تعود بيّ الذاكرة إلى تاريخ تأسيس مجلس التعاون والأيام التي سبقت إنشاءه بعد الموافقة الجماعية لقادة دوله بأهمية تأسيس كيان يحمي سيادة واستقلال إماراتهم الصغيرة المترامية على ضفاف الخليج ومياهه الساخنة أمام ما يدور حولهم من تهديدات، خاصة بعد انكشاف الغطاء الأمني البريطاني التي حاولت الإمارات الصغيرة أن تبقيه مستمرًا، إلا أن القرار تمَّ اتّخاذه في لندن ولم يعد ممكنًا استمرار القوات البريطانية بعد انحسار الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أراضيها بعد الحرب العالمية الثانية وفقدانها لأهم مستعمراتها، خاصة الهند جوهرة التاج البريطاني.

لذلك أصبح لزامًا على الإمارات المنتشرة على الساحل المتصالح - كما كانت تُسمى - البحث عن قارب النجاة الذي يساعدها على تحقيق آمنها واستقرارها وسيادتها الوطنية، فكانت فكرة إنشاء مجلس التعاون، وإن اختلفت القصص والروايات فيمن كان وراء هذه الفكرة.

ولكن الحقيقة تؤكد بأنها نصيحة بريطانية بتشكيل هذا المجلس نتيجة لتصاعد المَد الثوري العربي المتمثِّل في الناصرية والبعثية والشيوعية والإخوان المسلمين وللتطورات الخطيرة في المنطقة بسبب بدء اشتداد الحرب العراقية الإيرانية عام 1980م التي تبعد عنهم مسافات قريبة متفاوتة.

وبعد قيام مجلس التعاون، تلك الصورة الجميلة للقادة المؤسسين لمجلس التعاون والموقّعين على نظامه الأساسي في أبوظبى في (مايو 1981م) التي كنتُ أراها في مكتب سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة -المستشار الخاص لصاحب الجلالة- كلما قمتُ بزيارة سموه، ولهذه الصورة دلالات كثيرة أهمها الإيمان بالمصير الواحد المُشترك والموقف الموحَّد تجاه التهديدات الخطيرة التي كانت تواجه تلك الإمارات الصغيرة الغنية بخيراتها النفطية وموقعها الاستراتيجي في الخليج العربي وقلب العالم الحُر.

أما المخاطر والتحديات فقد كانت:

1- الحرب العراقية الإيرانية بمختلف مراحلها وتداعياتها.

2- الغزو العراقي الغاشم على دولة الكويت في (1990م) كأحد نتائج الحرب وتداعياتها، حيث ألغى أسس الأمن القومي العربي من الجذور لتصبح الدول العربية الأعضاء بالجامعة العربية لقمةً سائغةً لمن يرغب.

3- الغزو الأمريكي على العراق في (2003م) بحجة أمتلاك صدام حسين للسلاح النووي والادّعاء بتحويل العراق إلى (جنة الديمقراطية العربية)، ومثالاً لبقية الدول العربية لتعديل أو إلغاء أنظمتها، ومن ثم تقديم العراق على طبق من ذهب إلى إيران بعد فشل المخطط الأمريكي للديمقراطية المزعومة في العراق.

4- ما يسمَّى بالربيع العربي الذي أشعل المنطقة العربية في (2011م) المُخَطط له أمريكيًا والمموَّل من بعض الدول العربية بعد أن تمَّ استبعاد بعض الدول العربية المؤسِّسة من عضوية الجامعة العربية كعقوبات لعدم تطبيقها النظام الديمقراطي في الوقت التي ترزح هي ذاتها تحت نظام فردي ولا يشفع لها ألا ما تملكه من ثروات مالية طائلة لتمويل المخطط الأمريكي.

5- إيران التي وصلها الخميني على متن طائرة فرنسية ليُعلن قيام (الجمهورية الإيرانية الإسلامية)، لتصبح أول دولة شيعية في منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط الدولة الفاطمية في مصر عام (615م)، هذه الدولة التي كانت أهم مبادئها نشر الطائفية الدينية وتصدير مبادئ الثورة لجيرانها بكافة الطرق على اعتبار أن مبادئها هي روح السلام العالمي بدلاً من مبادئ الأمم المتحدة.

تلك كانت صورة الانقسام الذي مرَّت به الأمة العربية، لتتلاعب بمصيره مؤامرات ودسائس وقرارات سياسية للجامعة العربية اتخذتها تحت تأثيرات وضغوطات وشحن كنت شاهدًا عليه في قاعة الاجتماعات الكبرى بجامعة الدول العربية، أدت الى تعليق عضويات عدد من الدول العربية المهمة في المعادلة السياسية والامنية العربية ومهدت الطريق نحو صراعات عربية وعمليات ارهابية غير مسبوقة في الوطن العربي. وكان من المستغرب أن تمرر او توافق دول عربية كبيرة على تطورات ذلك المشهد الغريب الذي يعد تدخلاً في شؤونها الداخلية واستهانته بمقدّرات شعوب تلك الدول وقيادتها. كل ذلك بسبب الضغط الامريكي الذي كان أقصى اهتماماته الحصول على التمويل لمخططاته لتنفيذ نظرية وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس التي كانت ترى أنه لا بدّ من تدمير الوطن العربي وأنظمته من أجل تحقيق الديمقراطية على أراضيه وبين شعوبه، وكأنها نسيت تجربة العراق الذي يعيش حالة من انعدام الأمن والاستقرار والفقر حتى اليوم، لأن المهم كان الانتقام لما حدث لبرجي التجارة العالمي في نيويورك من تدمير هزَّ الغرور الأمريكي.

ولعلَّ العنوان الأمثل للوضع العربي الحالي هو التغييرات الكبيرة في مفاهيم وأهداف الأمة العربية التي ترعرع عليها المواطن العربي منذ أربعينيات القرن الماضي بعد أن تغيَّرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الضغوطات الأمريكية عليها، حيث انتقل النظام العربي إلى أرضية التصالح مع إسرائيل وإلغاء مبادئ التحرُّر التي دخلت الأمة العربية عدة حروب من أجلها حتى أصبحت الآن قضايا الأمة العربية وتحديدًا قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي مجرد عناوين باهته في النشرات الإخبارية، وتحوُّل المواقف العربية الرنانة في سبعينيات القرن الماضي التي صدر عنها قرارات أممية مهمة عام (1975م) بأن الصهيونية حركة عنصرية، إلى شكل آخر أشبه بالتوافق العربي الرسمي الأمريكي الإسرائيلي أدى في نهاية المطاف إلى حالة تعبِّر عن نهاية فصل بثوابته ومرجعياته بالنسبة للقضايا السياسية الاقتصادية والاجتماعية الداخلية أو ما يتعلَّق بالقضايا الوطنية والقومية ألى ثوابت ومرجعيات جديدة تقوم أساسًا على شعارات فضفاضة قدَّمتها الأمة العربية دون مقابل، في الوقت الذي لم تتمكَّن الولايات المتحدة من اقناع إسرائيل بتقديم تنازلات ملموسة فيما يخصّ التوقّف عن التوسّع المستمر في بناء المستوطنات إلا لفترات زمنية مؤقتة، وبذلك انتهى الحلم العربي بعودة فلسطين تحت أقدام العولمة والخصخصة والأسواق الحُرّة وتحرير التجارة والتطبيع.

هذا ما انتهى عليه الوضع العربي حاليًا، وأصبحت إسرائيل تعمل على اقامة علاقات دبلوماسية متعددة إلا أن السعودية -وانطلاقًا من قيادتها للأمة العربية والإسلامية ومسؤولياتها الروحية كونها مركز المسلمين من كافة بقاع الأرض- ظلَّت مواقفها ثابتة بأن السَّلام الشامل لا بد وأن يقوم على أُسس واضحة جدًا، أهمها مبادئ مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبدالله بن عبدالعزيز عام (2002م) وأُعلن عنها في القمة العربية في بيروت عام (2002م) ونالت تأييدًا عربيًا واسعًا؛ بهدف إنشاء دولة فلسطينية مُعترف بها دوليًا على حدود 1967، وعودة اللاجئين، وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان المُحتلة الى جانب وقف بناء المستوطنات مقابل اعتراف الدول العربية بها وتطبيع العلاقات معها.