لقاءات القمة التي تجمع قادة الدول من ملوك ورؤساء، تحدث باستمرار مُنذُ عُرف المجتمع الإنساني، وتأصلت خلال القرون الأربعة الأخيرة عندما تطور المجتمع الدولي بالشكل الذي نعيشه في وقتنا الراهن، ولقاءات القمة هذه تُطلق على أية اجتماعات تجمع قادة دولتين أو أكثر، سواءً كانت هذه اللقاءات دورية ومتفق على وقتها ومكانها، أو كانت لقاءات عاجلة أو قصيرة في أي مكان يتم اللقاء به، وبما أن لقاءات القمة هذه تجمع قادة دول، فإن درجة أهميتها ستكون عالية جداً لما قد يتم مناقشته والتباحث حوله، أو لما قد يتم الاتفاق عليه، ويصبح سياسة عامة تعمل وفقاً لها الدولتين أو الدول المجتمعة، ودرجة الأهمية للقاءات القمة هذه تتصاعد كلما تصاعدت مكانة وأهمية وميزان الدول المجتمعة في المجتمع الدولي، بحيث تكون تحت الملاحظة والمتابعة والمراقبة من باقي أطراف المجتمع الدولي، خاصة من قبل الدول المُنافسة لبعضها البعض، أو الداخلة في صِراعات ونزاعات فكرية أو أيديولوجية أو عسكرية، وانعكاساً لهذا الاهتمام الدولي المُتصاعد حول لقاءات قادة الدول المهمة والرئيسة في المجتمع الدولي، تتصاعد اهتمامات الرأي العام، بمختلف توجهاته وتطلعاته، لمتابعة لقاءات القمة وما قد يصدر عنها من قرارات وبيانات لمعرفة إن كانت تؤثر أو لا تؤثر على مصالحهم ومجتمعاتهم ودولهم، واهتمامات الرأي العام تجاه لقاءات قادة الدول يُصاحبها الكثير من التفسيرات والاجتهادات والطروحات والآراء التي تختلف وتتنوع وتتوافق وتتعارض بحسب الأهواء العاطفية، والرغبات الشخصية، والمستويات العلمية، والتوجهات الفكرية، والطروحات الأيديولوجية، مما يبعدها عن الواقع بشكل كبير لأنها بُنيت على اجتهادات شخصية وليست معايير علمية، ويقربها للأماني والرغبات الخاصة، فإذا وضعنا هذه المنطلقات العامة عند النظر للقاءات القمة التي تحدث بين قادة الدول وما قد يصدر عنها من نتائج ومخرجات، فكيف يمكننا النظر للقاء القمة الذي جمع رئيس جمهورية الصين الشعبية ورئيس جمهورية روسيا الاتحادية بالعاصمة الروسية موسكو في الفترة من 20 إلى 22 مارس 2023م؟ وإن كان نتج عن لقاء القمة ذلك تحالف استراتيجي أم تعاون يعزز الصداقة بين الدولتين الرئيسيتين في المجتمع الدولي؟.

إن الذي يجعل طرح هذا التساؤل غاية في الأهمية هي تلك الاجتهادات العديدة والمُختلفة والمُتنوعة التي صدرت من مختلف مستويات الرأي العام، حيث ذهبت النسبة الأعظم من هذه الاجتهادات بالاتجاه القائل إن لقاء القمة الذي جمع رؤساء الصين وروسيا هدفه بناء تحالف استراتيجي مُتقدم، وغرضه إزاحة الولايات المُتحدة من هرمية النظام الدولي، وغايته بناء نظام دولي متعدد الأقطاب بدلاً من الأحادية القطبية الأميركية القائمة مُنذُ 1991م. نعم، هكذا ذهبت معظم اجتهادات وطروحات الرأي العام تأثراً من البعض بالأحداث الدولية القائمة، ومناهضة من البعض الآخر للسياسات والتوجهات الأميركية الصادرة تجاه بعض الحضارات والثقافات والمناطق والمجتمعات والدول. فإذا وضعنا ذلك في عين الاعتبار، فإن طرح هذه التساؤلات يصبح أمراً ضرورياً ومقبولاً لمعرفة إن كان تلك الاجتهادات منطقية وواقعية، أم ليست كذلك.

صحيح، بادر رئيس جمهورية الصين الشعبية بزيارة ولقاء رئيس جمهورية روسيا الاتحادية لثلاثة أيام من 20 إلى 22 مارس 2023م، وذلك بالرغم من العقوبات الغربية - الأميركية الشاملة المفروضة على جمهورية روسيا الاتحادية مُنذُ بدء الصراع العسكري بينها وبين جمهورية أوكرانيا. وصحيح، أن زيارة الرئيس الصيني ولقاءه الرئيس الروسي جاء بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، في 17 مارس 2023م، مُذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي بدعوى مسؤوليته عن جرائم حرب ارتكبت في أوكرانيا مُنذُ بدء الصراع المسلح في فبراير 2022م. وصحيح أن زيارة الرئيس الصيني ولقاءه الرئيس الروسي جاء بعد أن تقدمت الصين لأول مرة بمبادرة للسلام بين روسيا وأوكرانيا في 17 فبراير 2023م، ووجدت في نفس الوقت تشكيكاً أوروبياً وأميركياً يتساءل عن مدى تقديم الصين دعماً عسكرياً لروسيا. وصحيح أن جمهورية الصين الشعبية تواجه ضغوطاً أميركيةً كبيرة جداً سواءً من خلال تواجدها وحمايتها ودعمها لتايوان، أو من خلال تواجدها الدائم في الجوار الجغرافي للصين في منطقة شرق آسيا، بالإضافة قيامها بمنع وحرمان الصين من الحصول على تقنيات أميركية متقدمة كنوع من معاقبة الصين. إلا أن جميع هذه السياسات والممارسات والسلوكيات والمبادرات لا تعني بالضرورة توجه الدول - أية دولة - نحو بناء علاقات استراتيجية فقط لأنها واجهت تحديات أو فرضت عليها عقوبات، إذا أن حسابات العلاقات والسياسات الدولية أعمق بكثير من الاستجابة لحدث معين، أو تلبية رغبة مُحددة، أو الاستماع لصوت العاطفة.

نعم، ترتبط جمهورية الصين الشعبية بعلاقات دولية متميزة بجمهورية روسيا الاتحادية، ويرتبط قادة الدولتين بعلاقات صداقة متينة وثقة متبادلة، وتتفق الدولتان حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية والعالمية، وتتواجد الدولتان في عدد من المنظمات الإقليمية والدولية، وتملك الدولتان حق النقض في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، وتملك الدولتان مختلف أنواع الأسلحة التقليدية والنووية، وتتفق الدولتان على معارضة السياسات والممارسات والسلوكيات الأميركية تجاههما وتجاه المجتمع الدولي، إلا أن ذلك كله لا يعني بالضرورة إقامة علاقات استراتيجية على أساس التحالف الشامل بين الدولتين الرئيستين في المجتمع الدولي. نعم، ليس بالضرورة أن يؤدي ذلك التوافق والتقارب بين الصين وروسيا إلى إقامة تحالف استراتيجي شامل فقط لأنهما يتفقان في بعض المسائل وإن كانت مهمة جداً لكلا الطرفين. نعم، ففي الوقت الذي تتفق فيه الدولتان حول بعض المسائل المهمة، فإن لكل منهما توجهاته السياسية والاستراتيجية، وتطلعاته الاقتصادية والصناعية، وخططه الأمنية والعسكرية، وأهدافه الإقليمية والدولية والعالمية.

فإذا أضفنا إلى هذه الاختلافات الأصيلة في توجهات كل دولة عمق التحديات التي تواجهها كل دولة على المستويات الإقليمية والدولية والعالمية، بالإضافة للاختلافات الفكرية والأيديولوجية والحضارية والثقافية العميقة بين الدولتين، فإننا ندرك صعوبة إقامة علاقات استراتيجية بينهما. وإذا افترض البعض أن هناك توافقاً حول بعض الملفات التي تؤدي لعلاقات استراتيجية هدفها تغيير النظام الدولي، فهل ذلك يعني التأييد المُتبادل للسياسات والممارسات الأمنية والعسكرية القائمة بما في ذلك ضم روسيا للأراضي الأوكرانية بالقوة، والممارسات المسلحة الروسية في سورية؟ وإذا هناك من يقبل بذلك الطرح، فهل تقبل أياً من الدولتين - الصين وروسيا - بأن تكون تابعة ومُنقادة ومُنفذة لسياسات وتطلعات وتوجهات وتحديات ومخاطر الدولة الأخرى؟!

وفي الختام من الأهمية القول إن الخوف من تصاعد حالة الصراع القائم بين روسيا وأوكرانيا إلى مرحلة متقدمة قد تتسع معها جغرافية الصراع، ونوعية الأسلحة المستخدمة، تدفع العُقلاء والحُكماء بالمجتمع الدولي إلى السعي لإيقافها، أو الحد من أثارها ونتائجها المُدمرة للمجتمعات والدول، وهذا الذي تقوم به الصين من خلال مُبادرة السَّلام بين روسيا وأوكرانيا.. نعم، إن الصين تطمح من خلال تعاونها مع روسيا للعمل من أجل تقليل الآثار السلبية للصراع القائم، ولضمان استمرار خدمة المصالح المشتركة للشعبين والدولتين، وسعياً لإحلال السَّلام وتعزيز الاستقرار الذي يؤدي للتنمية والتطوير وتحقيق النهضة الشاملة التي تعمل عليها الصين. نعم، إن حالة التعاون التي قد تكون مع دولة صديقة أو عدوة، هدفها الرئيس خدمة المصالح المشتركة وتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لجميع الأطراف الداخلة في حالة تعاون، بينما بناء التحالفات غير المتكافئة تعني تحمل أخطار غير منظورة تؤثر سلباً على حالة الأمن والسلم والاستقرار وتوقف خطط البناء والتنمية وتتراجع معها حالة الرفاه الاقتصادي والاجتماعي.