ما أجمل أن نرى المسلمين في مختلف أنحاء المعمورة يعيشون في رمضان أجواء المحبة والإلفة، ليعطوا بذلك لهذا الشهر الفضيل أسمى معانيه، ويرسموا لوحات جميلة تتجسد في العبادة أو الإحسان للفقراء أو اللقاءات العائلية أو التجمعات الرمضانية وغيرها.
لكن مع كل أسف، في الدول المهترئة سياسيا، مثل لبنان، حيث يختلف السياسيون على كل شيء تقريبا، يصبح شهر رمضان ملف خلافي آخر، وذلك عندما قرر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي - ربما بالتشاور أو بإيعاز من نبيه بري- تمديد العمل بالتوقيت الشتوي «استثنائيا» حتى ليل 20-21 أبريل مراعاة لظروف المسلمين الصائمين، وهذا ما أثار حفيظة غير الصائمين، أو غير الموالين، أو حتى أولئك الذين يبحثون عن الخلاف لمجرد الخلاف، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى تراجع ميقاتي عن قراره.
في مصر وإندونيسيا وتركيا وحتى في بعض المدن الغربية يستقبل الناس رمضان بالأفراح والأهازيج، وتكتسي الأماكن بحلة رمضان وبهجته، لكن في لبنان ينشغل الناس بمزيد من التناحر في رمضان، وتنشغل الحكومة اللبنانية والإعلام اللبناني والناس في الشارع بقضية تأخير الساعة أو عدم تأخيرها، وكأن اللبنانيين يعيشون كل الرفاهية الممكنة، ولا ينقصهم سوى التسلي بمثل هذه الأمور.
الدولة القوية التي تفرض هيبتها على الناس يعيش الناس في ظلها بسعادة، وفرض الهيبة ليس عن طريق القوة والقهر، بل عن طريق النظام والانسجام العام، فيعرف الناس أن مصلحتهم في الاتفاق على الأمور العامة، حتى لو كان ما تقره الدولة أو الحكومة لا يناسب مصالح شخص أو شريحة أو مجموعة أو فئة من الناس، طالما أن المصلحة العامة تتحقق بذلك.
على كل حال، لم نعد نسمع عن لبنان إلا من خلال مثل هذه المشاكل والتحديات، لم نعد نسمع عنه من خلال المهرجانات والسياحة والإعمار والإنتاج الفكري والأدبي والثقافي والفني والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي، لذلك لن يكون مناسبا الحديث عنه أكثر في هذا المقال الذي ينشر في هذه الأيام الفضيلة المباركة.
باقي دول العالم تستقبل رمضان بشكل مغاير لما استقبله به لبنان، ففي مصر مثلا تتزين الشوارع بالفوانيس الرمضانية، فيما يعتبر المسحراتي رمزًا لرمضان في دول أخرى، وذلك ضمن عادات وطقوس مميزة لا تحدث طوال العام، مما يزيد من بهجة هذا الشهر وأثره اللافت في النفوس كما يبرز أهمية هذا الشهر لدى المسلمين.
ونحن في الخليج وخاصة البحرين نعيش أجواء شهر رمضان بأجمل ما يمكن، ويتجسد هذا الأمر في كثير من الصور، من بينها المجالس التي يفتحها أصحابها لاستقبال المهنئين بشهر رمضان، وهي كثيرة جدا، وبالكاد تستطيع اختيار عدد منها لزيارته والاستمتاع بلقاء الأصدقاء والتعرف على أشخاص جدد وتبادل مشاعر الود معهم، كما أن هذه المجالس فرصة مواتية للقاء الأشخاص الذين ربما يكون حدث خلاف وجفاء بينهم لسبب أو لآخر خلال العام، فيلتقون ويسلمون على بعضهم البعض ويفتحون صفحة جديدة.
والحمد لله هذه السنة ازدحمت هذه المجالس بالمرتادين، لتعوضنا عن سنين كورونا العجاف، والتي أسأل الله تعالى أن تكون قد ولت إلى غير رجعة، فالخوف من العدوى والمرض وحتى الموت من كورونا أمر ثقيل على النفس، لكن الوحدة والابتعاد عن الناس وعدم التلاقي معهم هو أمر ثقيل أيضًا.
من المظاهر المحببة في رمضان أيضا في الخليج العربي والبحرين تحديدًا ما تراه من كرم العطاء وفعل الخير، ويتجسد ذلك في كثير من الصور، من بينها زيادة الكرم في العطاء وفعل الخير، فتحصل الكثير من الأسر المحتاجة على مساعدات مادية وسلل غذائية، كما يمكنك أيضًا رؤية العشرات وربما المئات من الناس، غالبهم من العمالة الآسيوية، إلى جوار الكثير من المساجد عند آذان المغرب، يحصلون على إفطار مجاني يقدمه أهل الخير.
وطبعا الإفطار له نكهة خاصة في رمضان، وأجواء خاصة عند كل المسلمين، وسيدات البيوت والطباخين يتنافسون على تقديم الأشهى والأطيب لعائلاتهم أو لضيوفهم، حتى أنني أعرف الكثير من الذين يسكنون خارج بلادهم ويعودون إليها في رمضان يحتفلون به مع أهلهم وأصدقائهم.
وهنالك «الغبقة»، وهي عادة متميزة تتميز بها بعض بلدان الخليج والبحرين خاصة، تربط الإفطار بالسحور، ولديها أجواء احتفالية خاصة ليس بالطعام وحده، وإنما أيضا بالترفيه ولقاء الأهل والأصدقاء، وبالمناسبة، قرأت مرة أن كلمة الغبقة هي هي كلمة عربية صحيحة، جاءت من الغبق وهو حليب البعير الذي يشرب في الليل.
وللأطفال في رمضان نصيب، حيث تقيم العائلات الخليجية احتفالية لتشجيع الأبناء ومكافأتهم على الصيام، ويجول بعض الأطفال والصغار في الطرقات بعد غروب الشمس لطلب الحلوى الرمضانية، أو ما يعرف بالقرقاعون، وهم يرددون بعض الأغاني المحببة.
ويبقى رمضان شهر العبادة والطاعات، والمجالس القرآنية، وفيه ليلة عظيمة هي ليلة القدر، خير من ألف شهر، والتقرب إلى الله تعالى في رمضان من خلال العبادات أجر مضاعف، كذلك فعل الخير والإحسان، والعفو والتسامح، كلها من صنوف العبادة.
ففي السعودية ترى الكثير من المسلمين يحرصون على قضاء الشهر الفضيل في مكة المكرمة والمدينة المنورة، لقضاء عمرة، أو ربما كامل الشهر هناك، حيث إن الروحانيات لا مثيل لها في هاتين البقعتين من الأرض، وربما ترى أجهزة التلفاز في كثير من منازل المسلمين حول العالم مفتوحة على نقل الصلوات الخمس من مكة المكرمة، ومشاهدة المسلمين يطوفون حول الكعبة على مدار الساعة.
اللافت للانتباه أن أجواء رمضان امتدت لتشمل أيضًا العديد من المدن الغربية، حتى بدأنا نرى شوارع مهمة في لندن مثلا تزدان بمناسبة هذا الشهر الفضيل، كما يحدث في أعياد الميلاد أو ربما على مستوى أعلى، وهذا يدل على أن المناسبات الدينية باتت أيضا مناسبات للاحتفال والترفيه وتنشيط الاقتصاد أيضًا.
أمر آخر لافت للانتباه هو اختلاف ساعات الصوم بين دولة وأخرى، فبينما يصوم المسلمون في البحرين مثلا بحدود 15 ساعة، يصوم الناس في دول شمال أوروبا فترات تصل لعشرين ساعة. لا أريد منك أن تعتقد أنه إضراب عن الطعام عشرين ساعة يوميا لمدة ثلاثين يوما، وإنما هو عبادة وصبر وتحمل يؤجر عليه صاحبه.
رمضان ليس شهر الجوع والعطش، بل تهذيب النفس، والصبر، والإحساس بالمحتاجين والمستضعفين، إنه ليس شهر الطقوس الشكلية، بل دلالات ومعاني عميقة من الخير والحب والإحسان من الضروري أن تكون أسلوب حياة مستمر تحاكي روحانية هذا الشهر الكريم، أعاده الله عليكم بكل خير.