ليست لوغاريتما يستعصى على الحل، لكنها أقاليم متنافرة، وليست هضبة في أعالي نهر النيل لكي تسكنها قبائل متناحرة، لكنها دولة من عدة دول، ووطن عربي في قلب القارة السمراء، وثروات مدفونة في أحضان ليست رحيمة بأهلها، ولا عليمة بما تخفيه الصدور.
منذ ثورة «الحرية والتغيير» التي قادتها «كاندا كات» الزمن الجميل، والسودان فوق البركان، يعوم فوق نهر من الأحزان والاضطرابات، ما بين الحكم المدني والسلطان العسكري، ما بين المركز المتحفظ، والأطراف المأزومة، بين العدالة المنشودة والمظاليم في أقاليم غرب وشرق السودان بعدما انفصل الجنوب بأهواله وحقوقه ومطالبه.
فجأة ومن دون مقدمات بالتحديد في منتصف أبريل الماضي، انفجر ما كان يخبئه الرماد من نيران، استعر ما هو تحت السطح وكان يبدو عليه أنه يعيش في سلام.
الانفجار هذه المرة لم يأت من ميناء «بورتسودان» أو إقليم «البجا» ولم تتحرك شظاياه من دارفور المشتعل حتى إشعار آخر، ولا حتى من غرب السودان، حيث المظالم والمطالب والريعان اليابس في الأرض الخضراء.
انفجر الموقف من داخل الثكنة العسكرية للجيش، مليشيات داخل القوات المسلحة الرسمية، يقودها نائب البرهان حميدتي أو محمد حمدان دقلو، شهر عسل انتهى بعد أن تربص كل رفيق بالآخر، وبعد أن استقوى كل «لدود» بما هو تحت أيديه من قوات وأحلام للانفراد بالسلطة.
البرهان بشرعيته الهشة بعد إقصاء التيار المدني عن الحكم، وحميدتي بتمترسه خلف تاريخه الطويل مع المليشيات «الجنجويد» التي استخدمها البشير في القضاء على التمرد في دارفور.
وها نحن اليوم نرى وبعد طول انتظار من تمترس المليشيات المسماة فيما بعد بقوات الدعم السريع خلف «شرعية» القضاء على التمرد في «دارفور» المظلوم بل وخلف «الحرية والتغيير» بتوجه فصيلها الإسلامي «البراجماتي» الواضح، أصبح لـ«حميدتي» أنياب وأظافر، ظهير قوى هو «مليشيات الدعم السريع»، وآخر لحفظ ماء الوجه من جماعة أو تيار «الحرية والتغيير»، أحدها جنجاويدي برصيد دارفوري مريب، والآخر عسكري برصيد منتهي الصلاحية بعد ثورة يناير «المباركة».
الدعم السريع أصبح في منتهى الخطورة ضمن مساحة لا تتجاوز العشرين كيلومترًا داخل العاصمة الخرطوم، وبقوة أكثر هشاشة عند الأطراف باستثناء بعض المناوشات مع «متمردي دارفور»، ومحاولات دولية وإقليمية لرأب الأصداع تقوم بها مصر والصين وروسيا والولايات المتحدة معتقدة في قرارة نفسها أن الوقوف الشكلي على الحياد لتهدئة الأجواء بين أطراف النزاع يمكن أن يصل بالأزمة الخانقة إلى حل.
بعد أسبوعين من القتال والدماء وأكبر هجرة جماعية للجاليات الأجنبية، أصبحت الحصيلة نحو 600 قتيلاً وأكثر من خمسة آلاف جريح، بل وأكثر من 40 مليونَ متضرر وجائع وشريد.
بعد نحو أسبوعين، شيطان التقسيم مخيمًا على السودان من جديد بعد فصل الجنوب، وها نحن الآن أمام دولة دارفورية على الطريق وأخرى مهيضة الجناح في الغرب ودولة سودانية جديدة في الوسط والشمال تحدها مصر، ثم أثيوبيا من الجنوب.
نهر النيل لم يشفع للسودانيين، والذكرى العطرة للطيب صالح لم تعد تتمتع بالرونق الذي كانت عليه قبل الحرب، موسم الهجرة للشمال أصبح موسمًا للهجرة إلى كل مكان، وأشعار أباطرة الأدب العربي الحسين الحسن والفيتوري والهادي آدم وغيرهم لم يعد لديها نفس النكهة التي تغنت بها أم كلثوم أو التي ذهبت إلى عقر مناهج المصريين لكي يدرسوا عليها كأجمل ما استمتعت به أرواحهم في خمسينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي.
السودان قصة طويلة منذ الانفصال عن مصر وهما تحت الحكم «الألباني» حتى لحظة انقلاب حميدتي على البرهان، والسودان قصة لم تبح بأسرارها بعد، فهي أعمق وأكثر اتساعًا مما يجتهد البعض.
السودان ملحمة لم يتم الكشف عن مغاويرها وأبطالها الأشاوس، من هم وراء ما يحدث في السودان، وما هي مصالح الأطراف الدولية من الحرب الضروس؟ وهل يمكن رأب الأصداع والجلوس على مائدة مفاوضات خالية من الخناجر وطلقات الرصاص، وأصوات الاستغاثة من كل بيت؟
ربما.. لكن الأكيد أنه لا يحك جلدك مثل ظفرك، وأن أهل السودان أدرى بشعابه، وللحديث بقية!
التعليقات