تعمل شركات التكنولوجيا بعقلية تكنوقراطية تُهندس الرغبات والأنماط والتوجهات والميول بالطريقة التي تجعل الأسئلة الاجتماعية أو الثقافية المتعلقة بالدين، والمبادئ والقيم والصح والخطأ وما هو مقبول أخلاقياً وعادل أموراً ثانوية، ليس لها تلك الأهمية في خضم الحراك المجتمعي العالمي في كتلة واحدة تسير نحو عولمة تجاهل القوى الاجتماعية والثقافية، التي قد تعرقل أو تؤثر في تجربة المستخدم في العالم الافتراضي والاستخدام المفرط للتقنيات المتقدمة الحديثة. ولا شك أن الشركات تحاول احتضان الجانب الإنساني وعقلنة التجربة، ولكن تلك المحاولات لا يحالفها النجاح البتة، لكون الأهداف بين النقيضين متباعدة لدرجة يصعب فيها الجمع بينهما دون خسارة أو إلغاء أحدهما للآخر.

والسؤال هنا: لماذا أصبحت الفلسفة عصرية مرة أخرى ولابدّ من الإبحار في علومها؟ فلم يعد الأطفال يحبون القراءة، ولم يعد الأكفأ والأكثر ملاءمةً والذي سيترك أثراً إيجابياً مستداماً في حياة أفراد المجتمع هو الذي يشغل الكراسي الأولى في مسرح الحياة المعاصرة، بل نجد أكثر الناس تفاهةً وأقلهم معرفةً وقيمةً مضافة للمجتمع هو النجم الساطع الذي يتطلع إليه الجيل الناشئ كمثال حي للنجاح والشهرة، وهو القدوة والذي يقدم المُثل العليا لهم، وبالتالي المعركة خاسرة مهما حاولت الأسر والمدارس ووضعت الدول من سياسات واستراتيجيات، وهنا تظهر جلياً الحاجة لاستشراف مستقبل إلغاء تعليم الفلسفة والمنطق وعلوم إنسانية أخرى من المدارس، بل ومن الجامعات أيضاً، ولذلك كلما زادت عناصر التكنولوجيا الأكثر شيوعاً في شغل التأثير الأكبر على طريقة عيشنا وتفكيرنا، تزداد الأهمية للفلسفة للإجابة على أنواع الأسئلة التي لا يمكن حلها بالعلوم الهندسية.

فالعالم اليوم في حاجة إلى إيجاد إجابات شافية ومقنعة حول فلسفة الذكاء الاصطناعي، (AI) ودور الذكاء الاصطناعي في العلوم والفلسفة والمجتمع والصناعة، وهل سيحل التعلم الآلي مشكلة الاستقراء؟ وهل سيتوافق الاستدلال في الشبكات العصبية الاصطناعية مع نظام منطقي لديه التفسيرات والمبررات والتفريق بين القابلية للتفسير والدقة؟ وكيف يمكننا الربط بين الذكاء الاصطناعي التقليدي والتعلم الآلي المستقبلي؟ ومن سيقرر أخلاقيات الذكاء الاصطناعي؟ بينما يستمر الذكاء الاصطناعي في طمس الخطوط بيننا وبين أجهزتنا، وبمعنى آخر إذا أراد الطلاب الازدهار في عالم دائم التغير فعليهم التفكير مثل الفلاسفة.

تعتبر الفلسفة أمراً حيوياً عندما نعيد تعريف الواقع باستمرار، ولا سيما أننا نعيش في عصر يتغير فيه الفهم الأساسي لما يعنيه أن تكون إنساناً، وتخيل كيف سيبدو كل هذا عندما يصبح الاختراق البيولوجي للإنسان عن طريق الآلة حقيقةً واقعة، والفكرة هنا أن الإنسانية والذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة سيصبحان متشابكين في النهاية إلى حد أن «الإنسان والآلة» سيصبحان واحداً، وماذا سيحدث عندما نتمكن من «تخزين» وعينا بشكل دائم؟ وبما أننا نعيش في عصر المعلومات الفورية سيحتاج أن يتعلم الطلاب التفكير فلسفياً بما يمكنهم من فهم الفوارق الدقيقة والمفارقة، ويصبحون قادرين على التفكير في الأسس الفلسفية الأكبر لوسائل الإعلام والترفيه التي يستهلكونها، ويتعلمون كيفية التفكير بطريقة تتجاوز أن ما يبدو صحيحاً ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً، وتنمية القدرة على النظر إلى المشكلات من زوايا مختلفة، وإيجاد حلول مبتكرة لا يمكن برمجتها بوساطة الذكاء الاصطناعي.

ولذلك فمن المهم أن نُعلم الطلاب كيف يكونون فلاسفة، ونشجعهم على أن يصبحوا مفكرين استراتيجيين ومتعلمين مدى الحياة، وأن يكون لديهم إطار عمل لفهم عالم يمكن أن يشعروا أحياناً بأنه خيال علمي لكون سرعة المتغيرات الحالية تفقد الطلبة القدرة على طرح الأسئلة، وتقود إلى الكسل العقلي وفقدان الهوية الواقعية، بل والتخلي عنها بلا رجعة. ولهذا أعتقد أن دمج الفلسفة في التعلم ضروري لجميع المعلمين قبل الطلبة، وتدريس الطلبة عن الآثار الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للتغير التكنولوجي، والتفكير بشكل نقدي في القيم التي يقوم عليها استخدامنا للتقنيات والتكنولوجيا المتقدمة، والنظر في طرق بديلة لتنظيم مجتمعاتنا واقتصاداتنا في ضوء هذه المتغيرات التكنولوجية.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات