تحت ضغط احتجاجات تشرين التي اندلعت في بغداد عام 2019، ووطأة امتداد احتجاجاتها في عموم مدن العراق ومناطقها، وسأَم المجتمع العراقي من تغول أحزاب السلطة الدينية، وموجات الاستنكار العالمية الشاجبة لتصرفات هذه الأحزاب وعبثها بالولة العراقية وعلاقاتها بغيرها من الدول، وتحت أثر التغير الطارئ على مناخ العلاقات السعودية الإيرانية في الآونة الأخيرة وانعكاسه الملحوظ سلبا على سطوة الأحزاب الإسلامية، تشهد العراق اليوم شيئًا من الهدوء والتراجع الملحوظ في عناوين القتل على الهوية التي رافقت سيرة حكم امتد مما بعد صدام إلى الآن، وشيئًا من التراجع في حجم الاغتيالات التي طالت الناشطين السياسيين من كل حدب وصوب ومن كل ملة ودين على يد الأحزاب الإسلامية الدينية المذهبية. ولعل في هذا مؤشر دالاً على أن المجتمع العراقي قد بدأ يتعافى ويخرج من دوامة العنف الدموي التي سادت في الساحة العراقية، فالعراقيون صناع حضارات ومنتجو ثقافة عانق صيتها عنان السماء وحان لهم أن يعيشوا حالة وئام اجتماعي ممتدة لأنهم يستحقون عيشًا أفضل مما كانوا عليه ومما هم عليه حاليًا.

من جملة علامات التغيير هذه التي يشهدها العراق وتدعو إلى التفاؤل، تعالوا نلقي نظرة نتأمل بها معًا عناوين هذه المشروعات الواعدة التي التقطتها من صفحة قناة «العربية» الإلكترونية، وهي مشروعات يرتجي منها العراقيون تحولاً اقتصاديًا ينقلهم من حالة البؤس والفقر في بلد يُعد من أغنى دول العالم إلى مجتمع توزع فيه الثروة الوطنية العراقية على أبناء العراق في ضوء ما يقتضيه ميزان العدل ووفقًا لما يتطابق مع حقوق الإنسان، هذه العناوين تقول: بدء الربط الكهربائي مع الأردن مطلع يوليو، 7.7 مليار دولار قيمة الصادرات من النفط الخام في أبريل الماضي، إطلاق مشروع لربط آسيا وأوروبا بـ 17 مليار دولار، صندوق التنمية السعودي سيضخ مليارًا ونصف في العراق، ودعوة أرامكو للمشاركة في تطوير حقل عكاز.

جملة المشاريع هذه استجمعتها لخلق نوع من الاقتناع الذاتي وشيء من التفاؤل عساهما يغطيان على ما شهدناه معا في مرحلة تُعد بإجماع العقلاء من أسوأ مراحل التاريخ العراقي، وهي مرحلة ما كان لها أن تكون في تصدرها لائحة السنوات العجاف التي مر بها العراق على امتداد تاريخه الطويل لولا المليشيات المذهبية الطائفية وأدوارها القذرة في العبث طولاً وعرضًا في مساحة حكمها لهذه البلاد، وفي هدم كل ما كان مشيدًا على الأرض، وفي تدمير ما ترسخ في القناعات المجتمعية وقيمها منذ عهد حمورابي؛ لتهيل على كل ذلك ركام بؤس إيديولوجيتها وطائفيتها المقيتة التي استنزفت الثراء الحضاري واستمرت في تقسيم العراق وتفتيته ردحا من الزمن بعد غزو أمريكا له وانتزاع السلطة عنوة من نظام صدام حسين لتسليمها لهذه الأحزاب المتناغمة مع طبيعة المشروع الأمريكي القائم على تمكين الإسلام السياسي؛ ليكون خادمها الأمين وراعي مصالحها في المنطقة العربية.

صحيح أن الأخبار الأولى التي عرضتها إيجابية وتبشر بتعافي العراق، ولكن الفرحة لم يُكتب لها أن تكتمل، فمن بين المشاريع سالفة الذكر ثمة خبر في غاية السوء والخطورة على التقدم المحرز الذي بدأ العراقيون يتلمسون تحققه، ومن شأنه أن يدمر كل ما ذكر؛ لأنه دعوة صريحة إلى الاقتتال الذي ما برح المجتمع العراقي بقواه الوطنية المدنية يسعى إلى وقفه حتى ينطلق في عمليات إعادة إعمار العراق الجديد. عنوان هذا الخبر يقول: جماعة الثأر الحسيني تطل في العراق.. وتهاجم الصدر.

المشكلة هنا ليست في مهاجمة الصدر، إذ لا فرق عندي بين الصدر وغيره من الأحزاب الدينية، فكلهم عندي سواء في معركة إعادة بناء الدولة على أسس جديدة تنأى بالعراق عن لعبة الاصطفافات المذهبية والدينية، فإعادة البناء تبدأ من تحييد الأحزاب الدينية أيا كانت مشاربها وتوجهاتها؛ ليكون الأمر موكولاً أساسًا للأحزاب المدنية المؤمنة بقيم المواطنة والعيش المشترك وواجب وضع الدولة على سكة الحداثة والتحديث، وليس هذا التحييد إلا نتيجة منطقية لطبيعة التفكير الإقصائي المتغلغل في ثقافة الأحزاب الدينية العراقية المسيطرة على السلطة والتي استولدت مثل هذه الجماعة المتطرفة والتي لا تؤمن بالتداول السلمي للسلطة كما ينص دستور العراق على ذلك، ولهذا فلا دواء للعراق من أمراضه إلا بإعادة هذه الأحزاب إلى حجمها الطبيعي وإبعادها عن الحكم، إذ يكفي العراق ما عاناه من هذه الأحزاب التي لا تنتعش إلا بخلق الأزمات، وهذا لا يعني سوى الإقرار بأن جماعة الثأر الحسيني ليست إلا تشكيلاً حزبيًا جديدًا مشروعه ينسجم تمام الانسجام مع كل الجماعات الإسلامية المتطرفة الأخرى، وإن تضادت المصالح آنيًا.

مفهوم أن الثأر الذي تلزم هذه الجماعة نفسها به هو للـ«حسين»، لكن السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو، عند من ثأرهم هذا؟ وممن؟ ولو أننا تفكرنا في الإجابة فإننا سنجد أن كل السبل تقودنا بالتأكيد إلى استهداف صريح لكل المكونات السنّية وللجماعات الشيعية المعتدلة. لقد أكدت هذه التشكيلة الحزبية، منذ ظهورها الأول في المشهد العراقي على أن الصدر أحد مستهدفاتهم، وهذا بالطبع ينبئ بتأسيس مرحلة جديدة من الاحتراب والكراهية بات العراق في غنى عنها بعد كل هذه الدماء التي أُريقت. لهذا تبقى محاربة هذه الجماعة فكريًا والقضاء عليها مهمة عاجلة لحكومة السيد السوداني، وأولوية مطلقة من أولويات الأمن القومي العراقي، حتى يُثبت استقلال قراره السياسي عن تأثير زمرة هذه الأحزاب.. فهل يحصل ذلك؟

العراق اليوم ليس في حاجة إلى مزيد من الأحزاب الدينية الميليشياوية، بل إنه في أمس الحاجة إلى مزيد من التنمية كالتي أشرنا إليه في صدر هذا المقال، وإلى نشر ثقافة المواطنة والانتماء للعراق الجامع.. فهل يستطيع التيار المدني العريق هناك فرض خياره في تأسيس هذه الدولة الحاضنة للمواطنة والديمقراطية؟ شخصيًا أعتقد أنه يستطيع.