تُظهر آخر استطلاعات الرأي داخل «الحزب الجمهوري»، والتي جرت في منتصف يونيو الجاري، أن دونالد ترامب ما زال هو المرشح الأفضل لمنصب الرئاسة في انتخابات العام المقبل لدى غالبية «الجمهوريين» رغم كل الدعاوى القانونية التي أقيمت ضده في ولايات عدة وعلى قضايا مختلفة بعضها يرتبط بالأمن القومي الأمريكي. ويبدو أن المؤيدين لترامب لا يعنيهم كثيراً ما في مضمون هذه الدعاوى القانونية ويعتبرونها مجرد اتهامات سياسية حزبية من إدارة بايدن ولن تؤثر على ترشح ترامب للرئاسة وعلى إمكانية فوزه أيضاً!

حتماً يملك ترامب تأثيراً كبيراً على القاعدة الشعبية للحزب الجمهوري، التي هي الآن مزيج من تحالف العنصريين البيض ومن أتباع للطائفة الإنجليكية المحافظة ومن الداعين لانتشار السلاح وحقوق حمله. وهذا المزيج هو الذي يهدد ترامب به المرشحين الآخرين في حزبه ولدى خصومه معاً، إضافة إلى الدعم الكبير الذي يحظى به ترامب من بعض الشركات وجماعات «اللوبي»، ومنها «لوبي الأسلحة»، وما لهذه الجماعات وقوى الضغط من علاقات قوية مع أعضاء في مجلسي الكونغرس.

وقد أدرك ترامب عقب فوز باراك أوباما بانتخابات العام 2008، حجم ردة الفعل السلبية التي جرت في أوساط الجماعات المحافظة والعنصرية داخل المجتمع الأمريكي، نتيجة فوز أمريكي من ذوي البشرة السوداء وابن مهاجر أفريقي مسلم، بأهم موقع سياسي في أمريكا والتي ما زالت العنصرية متجذرة في أعماق الكثير من ولاياتها الخمسين.

أيضاً، أدرك ترامب ما حصل داخل الحزب الجمهوري في العام 2010 من ظهور وتفوق تيار «حزب الشاي» المحافظ، والذي استطاع الحصول على غالبية أعضاء مجلس النواب في الانتخابات النصفية، اعتماداً على التخويف الذي مارسه هذا التيار من معاني فوز باراك أوباما بالرئاسة الأمريكية، وعلى الحملات التي قام بها المرشحون باسم هذا التيار ضد المضامين الاجتماعية الليبرالية لأجندة أوباما وضد المهاجرين عموماً، ومن هم من دول العالم الإسلامي على وجه الخصوص!

وكان ما سبق ذكره كافياً لدونالد ترامب لكي يحسم خياراته الفكرية والسياسية لصالح القوى المنتمية لهذه الجماعات اليمينية المحافظة، التي تحركت ضد كل ما كان يرمز له أوباما من أجندة ومن أصول إثنية وعرقية ودينية وسياسية، وبحيث تحولت هذه القوى إلى تيار شعبي بنى عليه ترامب لاحقاً قوة قاعدته الانتخابية، والتي استطاعت تجاوز العديد من المرشحين المعروفين في الحزب الجمهوري، وجعلت من ترامب رمزاً لها وتمكنت من إيصاله إلى الرئاسة الأمريكية. ودعم هذه القاعدة الشعبية له ينطلق من ضرورة عدم تكرار حقبة أوباما، وبأن عودة «أمريكا العظيمة».. أمريكا ذات الأصول الأوروبية البيضاء البروتستانتية، مرهونة باستمرار ترامب في موقع الرئاسة وبما هو عليه من أجندة داخلية وخارجية.

واقع الحال، أن المجتمع الأمريكي يسير نحو التطرف بالاتجاهين المتعاكسين لأسباب موضوعية تزداد فعاليتها منذ بدء القرن الحالي. وما ينطبق على القوانين العلمية الفيزيائية يصح أيضاً على المجتمعات والشعوب، حيث لكل فعل ردة فعل موازية لقوته، ولذلك مقابل التطرف «اليميني» الذي تعيشه الولايات المتحدة، هناك تطرف نحو «اليسار» لدى المعارضين له، وهو أمر يتجاوز بكثير مسألة الانقسامات السياسية والأيديولوجية ليشمل ما هو أخطر على وحدة المجتمع الأمريكي.

و«الأصوليون الأمريكيون» تنتشر وسطهم جماعات دينية محافظة، وبعضها لديه عنصرية دينية ضد أي دين أو مذهب مسيحي آخر، بينما الهجرة من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا وشرق آسيا ودول العالم الإسلامي كانت تزداد بشكل واسع خلال العقود الماضية، علماً أن غالبية المهاجرين من أمريكا اللاتينية هم من أتباع المذهب الكاثوليكي بينما من هم «أصول أمريكا» يتصفون بـ«الواسب» WASP والتي تعني «البيض الأنجلوسكسون البروتستانت»، وهم الذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضد الأفريقيين المستحضرين للقارة الجديدة، إلى حين تحريرهم قانونياً من العبودية على أيدي الرئيس إبراهام لنكولن في نهاية القرن التاسع عشر، بعد حرب أهلية طاحنة مع الولايات الجنوبية التي رفضت إلغاء العبودية في أمريكا.

فالتغيير الديمغرافي الحاصل في المجتمع الأمريكي، والعنصرية العرقية المتجذرة، والهجرة لأمريكا من أديان ومذاهب وثقافات مختلفة عن «الأصول الأمريكية» كانت هي وراء فوز ترامب في العام 2016، وهي مستمرة الآن كقوة دعم له فارضة نفسها على الحزب الجمهوري وعلى أعداد كبيرة من المستقلين غير الحزبيين.