قبل أسابيع كتب الأستاذ عبدالله بن بخيت مقالاً عن إسرائيل، ووصف المجتمع الإسرائيلي بأنه يعيش حياة غير طبيعية ومصطنعة تفتقد للديمومة وكأنها جِمَال تعيش في حظيرة معزولة في القطب المتجمد. السؤال: هل هذا نذير بأنها دولة مؤقتة؛ وأن هذا الدليل على أنها لم تنجح في تحقيق السلام رغم مرور ثمانية عقود على تأسيسها؟

قبل الإجابة من المهم أن نعرف كيف تنظر إسرائيل إلى السلام ومدى قابلية تحقيقه، وخلال الثمانية عقود ماذا تغير هناك؟ ولو أخذنا الفن كنافذة، تجد في الأعمال الإسرائيلية الفنية الموجودة على منصة (نتفلكس) مثل: مسلسل (فوضى) و(تل أبيب تحترق)، بأن المقابل -الفلسطيني- تعاني مؤسساته من الاختراق الخارجي سواء من الأجهزة الإسرائيلية أو الإخوانية، وأن العمليات الانتحارية التي تنفذها المنظمات الفلسطينية ليس نتاج الفكر الجهادي التكفيري بل ذات نزعة ثائر وانتقام تجعل الأمور أكثر تعقيداً، عموماً أنا أجد الفن مقياساً ليس علمياً ولكنه يعكس قيمة الواقع المقابل الذي يصوره (أقتبس هذا التعريف من مجموعة قصص قصيرة اسمها إجازة تفرغ للكاتب بدر الديب).

عموماً الانتخابات توضح أن المجتمع الإسرائيلي يعيش مزاجاً متقلباً، وهذا جزء من ديناميكيته منذ العام العام 1993م وفوز رابين، حتى اليوم نلاحظ أصوات السلام في هبوط وارتفاع، وهذا يوضح ديناميكية وتغير (العقل الاجتماعي) الإسرائيلي، لكنه يسير نحو تغير جوهري وهو التحول من دولة تتكون من شتات اليهود في العالم إلى الدولة (العبرية) وهو التحدي للبقاء في إسرائيل.

خلال العقود الثمانية الأخيرة شهد المجتمع الإسرائيلي تطوراً ملحوظاً، حيث سادت اللغة العبرية وأصبحت لسان المجتمع، وتكيفت مع التطور العلمي والمعرفي، ومن يقرأ مذكرات شارون (إصدار دار بيسان) يُصْدم من ذكره أن والداه لم يكونا يتحدثا العبرية بل كانت اللغة الأولى -بشكل نسبي- بين الشتات اليهودي هي لغة أخرى اسمها (الياديش). كما نشبت حرب أهلية بين المستوطنات اليهودية قبل قيام الدولة، إلا أن الخوف من العدو العربي هو ما كان يوحدهم، أما اليوم ومع الدولة الحديثة أصبحت المعطيات الاقتصادية والثقافية مؤثراً كبيراً، ولم يعد الخوف فقط ما يجمعهم بل المصالح وقيام ثقافة عبرية علمانية تضاد الثقافة اليهودية التي قد تدمر مؤسسات الدولة العبرية بما تحمله من تصادم.

مشكلة المورث اليهودي أنه في خصومة مع التاريخ والاندماج مع العالم ويفتح أبواباً من التصادم مع اختلاف الطوائف، وللتوضيح الديانة اليهودية تتشابه مع الإسلام ظاهرياً في مسائل، مثل: الحجاب والوضوء وعدم أكل الخنزير، لكنها حسب كتاب (اللاهوت العربي) و كتاب (القصص القرآني ومتوازيات التوراتية) تختلف في عمقها ومضمونها جذرياً، فهي ديانة غير تبشيرية ومفاهيم الغفران والتسامح ليست من الصفات الألوهية كما هي في القرآن، كما أن قصص الأنبياء، مثل: داود وإبراهيم ونوح -عليهم السلام- الموجودة في العهد القديم مختلفة عن القرآن وتليق بمكانتهم الكريمة.

أكبر خصوم المورث اليهودي هم المجتمع العلماني الإسرائيلي نفسه المخالف للفكر التوراتي مثل عالم الآثار الإسرائيلي الكبير فلنكنشتاين الذي ينفي وجود الهيكل. عموماً ألاحظ في المجتمع الإسرائيلي المتعلم نزعة علمانية صارمة كردة فعل ضد الموروث الديني، مثلاً في ندوة شارك فيها الدكتور الإسرائيلي (دانيال كهانمان) الحائز على جائزة نوبل في السلوك الاقتصادي وصاحب كتاب (think fast and slow) والفيلسوف اللبناني نسيم طالب حسب كتاب (black Swan)، كرر نسيم كذا مرة بأنه أرثوذكسي، فردّ عليه دانيال بعدم داعي ذكر الديانة في حضرة نقاش علمي.

عموماً التحول من اليهودية إلى الدولة العبرية هو التحدي الذي يسبق السلام العربي الإسرائيلي لأنه الطريق الوحيد للبقاء.