لم يبقَ منها غير ما احتفينا به أمس الأول، ولم يعد لنا من التاريخ سوى بضعة أقلام تكتب، وبعض من سفراءنا يتذكرون ثورة يوليو 1952، لم تكن كيفية الثورات، دماء في الشوارع، وقتلى على ضفاف النيل، أنظمة تأتي على جثامين أنظمة أخرى، ولا شعب يحل مكان شعب آخر مظلوم.

ثورة يوليو لم تكن مجرد حركة عابرة لـ«ضباط أحرار»، أو انقلاب عسكري على مملكة مدنية، لكنها جزء من منظومة مجتمعية، من حراك سياسي وثقافي لم يرخِ سدوله على الأمة أيام التنوير الأولى في مطلع القرن العشرين، هي استمرار لنظام اجتماعي جاء من تحت قبعة «عرابي» زعيم الفلاحين، ومن بين براثن الاستعمار عندما جاء مصطفى كامل ليحيي الخطاب الوطني في نفوس كانت غير مطمئنة على مستقبل الوطن.

و.. من سترة الزعيم سعد زغلول وهو يقود ثورته ضد التدخل الأجنبي عام 1919 ليقيم حياة دستورية ونيابية جديدة.

ثورة 1952 لم تنجح كونها خرجت من فراغ، أو أن قادتها جاءوا على سلاح الفرسان بأحصنة فقدت قدرتها على الحياة، لكنها جاءت على أكتاف أحرار أحبوا وطنهم أكثر مما أحبوا الحياة، وضعوا رؤوسهم على أكفهم، وحملوا أكفانهم فوق أذرعتهم، وقدموا الدليل على حسن النية من قبل أن يذهبوا للقصر كي يستبدلوا ملك برئيس، أو نظام ملكي بآخر جمهوري، الشكل والمضمون كلاهما محل نظر، والإطار والمحتوى مازالا على المحك، أيهما يا ترى أفضل، أم أيهما يا جماعة الخير كان يمكن أن يحقق طموحات مصر بين شقيقاتها؟

السؤال مطروح حتى اللحظة، ونحن نحتفي في كل مكان على وجه المعمورة بثورة 1952، ونحن نذهب متذكرين تلك الليلة التي تحدث الكثيرون عنها، وأقاموا المباخر لقادتها، ورفعوا القبعات حتى لضحاياها.

ثورة يوليو لم تكن حركة والسلام، لكنها جاءت بمشروع سياسي واقتصادي وثقافي، جمعت قوى الشعب حولها، ودافعت عن مبادئ خمسة أو ستة أو أكثر حماية لأمن مصر القومي، ظهرت مع بداية مشروع الضباط الأحرار بدايات لدولة مصرية مدنية وليست عسكرية في الإقليم العربي، وبدأت الإرهاصات الأولى لقيام تلك الدولة تتجلى في تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وفي خوض حرب التحرير الأولى ضد بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، رغم خروج البريطانيون إثر اتفاقية غير كاملة الأوصاف عام 1954.

كانت الكرامة الوطنية شعار المرحلة، والبناء على ما فات «إلا قليلاً» هو رايتها، والمحافظة على المكتسبات الثقافية والعلمية والقامات الوطنية هو الرمز الذي تواصل من خلاله عميد الأدب العربي طه حسين وشيخ الأدباء العباقرة عباس محمود العقاد، وسيد الرواية العربية نجيب محفوظ، وغيرهم من القامات التي ساهمت في تشكيل الوعي القومي المصري والعربي لإيمانها الشديد بأن مصر لن تنجح، وثورتها لن تحيا من دون تضامن عربي حقيقي، وامتداد قومي من الخليج إلى المحيط، وانتشار جغرافي وتوعوي زاحف من النهر إلى البحر، ومن البحر إلى النهر.

هكذا كنا، وهكذا أصبحنا، أمة مترامية الأطراف، ثورة لم يبق منها سوى الذكريات، ودولة مستقلة تحاصرها التحديات، وشعب يواجه العالم بقلب ملؤه الإيمان بوطن لم يكن في يوم من الأيام مهيض الجناح، ولا خفيف الوزن، ولا قليل الحيلة، وكل عام وأنتم بخير.