ثمة اتفاق بين المهتمين بالفنون البصرية أن الوعي الجماهيري الذي تحتاجه هذه الفنون له انعكاسات كبيرة على تشكّل الذائقة الاجتماعية من جهة وعلى تطور هذه الفنون من جهة أخرى، اتباعاً لقاعدة "الجمهور عايز كذا"، وهي قاعدة ذات حدين، فهي تشير من زاوية إلى وجود وعي جماهيري بالفنون، ومن زاوية أخرى قد تقود إلى ظاهرة "تسطيح الوعي الفني" والثقافي، وهي ظاهرة تنشأ عندما يهيمن عقل وذائقة الجمهور نصف المتعلم ونصف الموهوب على مسارات إنتاج الفنون مما قد يساهم في توجيه عقول الفنانين وانتماءاتهم الفكرية، اتباعاً للقاعدة المشهورة. الجدير بالذكر أن هذه الظاهرة أصبحت مرتبطة بشكل عميق بوسائل التواصل الاجتماعي العنكبوتي الذي صار يشكل الوعي العام بصرف النظر إذا ما كان الوعي الذي تصنعه هذه الوسائل صحيحاً وملائماً أو أنه قد يقود إلى "وعي زائف".

كان هذا الموضوع محور حديث مجموعة من الزملاء، فقد كان تساؤلهم حول ما يقدم في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً ما يتعلق بالعمارة، هل يساهم في خلق وعي معماري حقيقي أو أنه يساهم في صناعة عمارة تلفيقية مزيفة؟ أحدهم كان يرى أن هذه الوسائل صارت تنافس مدارس العمارة، وربما تتفوق عليها في تقديم المعرفة بشكل أسرع. ويبدو أن هذا السؤال الذي لم يتصدَّ له البحث العلمي حتى الآن، على الأقل في بلادنا، رغم الانتشار الواسع لمشاهير التواصل الاجتماعي المعماري الذين يخوضون في كل شيء ويفتون في كل مسألة، أقول إن هذا التساؤل أثار العديد من الزملاء وجعلهم يتذكرون حديثاً جرى بين بعضنا في نهاية القرن الماضي حول ضعف الوعي المعماري الجماهيري، الذي جعلني أكتب سلسلة من ثلاث مقالات نشرت في صفحة العمران والتنمية في جريدة "الرياض" في العام الأخير من القرن الميلادي الفائت، وكان عنوانها "العمارة وتشكيل هوية المتلقي"، بينت فيها أن العمارة تحتاج إلى جمهور متذوق يطلبها، إذاً كيف ننتقد الآن هذا التصاعد للوعي المعماري المجتمعي ونتهمه بأنه سيقود إلى خلق عمارة مزيفة رغم أنه يعمل جاهداً على صناعة هذا الجمهور المتذوق للفنون والعمارة؟

تساؤل في محله، إذ يبدو أننا معشر الأكاديميين لا نريد أن نعمل ولا نريد لغيرنا أن يعمل. لكن يجب أن نذكّر بأن العمارة مثل بقية الفنون الأخرى، خصوصاً البصرية، تحتاج إلى معرفة وفي الوقت نفسه تتطلب قدرة على رؤية ما وراء الأشكال الظاهرة. أي أن غير المنظور يوازي المنظور، فلا يكفي أن تعرف بل يجب أن تتذوق، وهذه إشكالية طرحها الزملاء بتجرد، فهم يرون أن من يتحدث عن العمارة في وسائل التواصل الاجتماعي ينظر لها في جانبها المعرفي التقني وغالباً ما تكون الرسائل المعمارية الموجهة للجمهور تفتقر إلى القدرة على بناء الذائقة الحقيقية فيعتقد البعض أنه امتلك معرفة وذائقة معمارية وفنية بينما هم لم يتعرفوا إلا على بعض "الفتات التقني". إنها معرفة، من وجهة نظرهم، تزيد الأمر سوءاً وتجعل كثيراً من عامة الناس يتنمرون على المعماريين والمصممين في ظنهم أنهم يمتلكون المعرفة الكافية لتوجيه المعماري وفرض ذائقتهم عليه. الجدير بالذكر أن فلسفة "التصميم مع الناس" وليس "للناس" هي فلسفة مبنية على أن المجتمع يتمتع بذائقة ومعرفة مقبولة في الفنون والعمارة، وكان يفترض من الزملاء أن يروا الوعي الجديد الذي تصنعه وسائل التواصل بصورة إيجابية، لولا أنهم يعتقدون أنه معرفة مبتورة وخالية من العمق الذي تحتاجه المعرفة بالفن والعمارة.

الربط بين وسائل التواصل الاجتماعي وبين "زيف الذائقة" التي تتطور عن المعلومة المغلوطة والتحليل الهزيل لقادة التواصل الاجتماعي المعماري هو السبب من وجهة نظر الزملاء. الزيف عادة ما يرتبط بنصف المعرفة ونصف الذائقة فما بالكم عندما تكون الفرصة متاحة أمام الجميع كي يتحدث وكأنه "خبير" و"فنان" و"مصمم"، فإذا ما أضفنا الضعف الواضح للمجتمع فنياً، ليس المجتمع السعودي فقط، بل أغلب المجتمعات العربية، سوف نجد أن التواصل الاجتماعي المعماري يمكن أن يسهم في خلق عمارة مزيفة في المستقبل. وقد يسهم في التشويش على من يملكون المعرفة والخبرة والموهبة فلا يستطيعون أن يُوصِلوا رسالتهم بشكل صحيح.

الجدير بالذكر أن تأثير "المعرفة الطائرة" التي باتت تميز هذا العصر نتيجة لهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على مصادر المعرفة المعاصرة قد يساهم في الحد من تطور مهارات البشر في العقود القادمة، والأمر الأخطر، الذي أشار إليه أحد الزملاء، هو أن البشر سيكونون متشابهين أكثر بعكس الفطرة التي خلق الله الناس عليها عندما جعلهم شعوباً وقبائل. انتهى نقاشنا، بالقول إنه يصعب الجزم أن وسائل التواصل الاجتماعي ستخلق فنوناً وعمارة مزيفة، رغم التأكيد على أن كل ما هو مهاري ويحتاج إلى موهبة ويتطلب صقلاً للذائقة هو معرض للخطر نتيجة لما تقدمه هذه الوسائل من توجيهات "شبه جاهلة" لا تتوافق مع عمق هذه الفنون وتجذّرها في وجدان الشعوب.