يتجه العالم لمزيد من الاستقطابات الإقليمية والدولية، ومن الواضح أن الحوارات الدولية التي انتهت في الأمم المتحدة مؤخراً قد كشفت بعمق ما يعانيه العالم من تحديات ومخاطر، وأن ما يجري في بنية النظام الدولي مرتبطة بالفعل بتطورات خطيرة مرتبطة بمصالح وأهداف كل طرف دولي أو إقليمي، وفي ظل تصميم على إدارة العالم خارج سياقات التنظيم الدولي سواء في مجلس الأمن، أو خارجه بدليل دعوة الرئيس الأميركي جو بايدن للحشد الدولي تجاه روسيا، والعمل على تطويق التحركات الروسية والصينية خاصة بعد التنسيق العسكري اللافت بين البلدين مؤخراً ما يشير إلى أن الأمر بين الجانبين قد دخل مرحلة تنفيذ الاستحقاقات السياسية والاستراتيجية ما يزعج الإدارة الأميركية التي ما تزال تسعي لمناكفة السياسات الروسية ليس في أوكرانيا، وإنما في النطاقات الاستراتيجية المتعددة.

ومن الواضح أن الصين وروسيا تعملان في اتجاهات محددة، وفي إطار من السياسات التكتيكية والاستراتيجية، والتي تحدد مناطق النفوذ والتأثير ما قد يعيد تقسيم العالم إلى دوائر، ونطاقات سياسية واستراتيجية متعددة المجالات، ومما قد يصل بالسياسات الأميركية إلى دوائر محددة، وهو ما تتخوف من تبعاته الإدارة الأميركية في الوقت الحالي. وبدا واضحاً أن تعميق التنسيق الروسي الصيني يكتسب أهمية خاصة، حيث سيزور الرئيس الروسي بوتين بكين، في أكتوبر المقبل، لعقد مباحثات مع نظيره الصيني شي جينبنج.

ومن ثم فإن هناك تطابقاً في نهج روسيا والصين تجاه القضايا الأساسية للنظام الدولي متعدد الاقطاب، ويمتد هذا التطابق في المواقف تجاه المشاكل الدولية الرئيسية، خاصة مع تجديد دعم موسكو لبكين في عدة قضايا، منها تايوان وشينجيانج وغيرها من القضايا، ومنها أيضاً مواصلة تعميق التنسيق الفعال في إطار منظمتي«شنغهاي للتعاون» و«بريكس»، مع الوضع في الحسبان تحسين سمعة وتمثيل هذه البنى لجهة توسيعها تمثيلياً، وكذلك في إطار مجموعة العشرين والتجمعات المرتبطة برابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، و«منتدى التعاون الاقتصادي» في منظمة آسيا والمحيط الهادئ، وغيرها من صيغ التواصل الدولية بما في ذلك القمة المرتقبة للتعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، وكل هذه التطورات ستزعج الولايات المتحدة وستتطلب تحركات مقابلة بدليل ما دعا إليه الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخراً من ضرورة التكتل ضد روسيا.

وحذر من أن السماح بما يفعله الرئيس الروسي بوتين سيؤدي إلى تقويض سيادة كل الدول، وميثاق الأمم المتحدة. وذلك بالرغم من أن السلوك الأميركي- وفي المقابل - في مناطق متعددة قد أضر بالاستقرار في العالم، وأدى لمزيد من التوتر بين الدول الكبرى، وهو ما سيزيد في الفترة المقبلة من استمرار المواجهات الدبلوماسية والاستراتيجية بما ينذر بالكثير من أعمال التصعيد في مناطق الصراعات بل، ونشوب الجديد منها مثلما جرى مؤخراً بشن أذربيجان عملية عسكرية في ناغورنو كاراباخ بعد ثلاثة أعوام من آخر حرب، وهو ما يمكن أن يتكرر في صراعات أخرى قيد الاشتعال في أي لحظة.

ومن ثم فإن ما سيجري في العالم سيرتبط فعلياً بصراع مستمر لن يصطدم على الأقل في الوقت الراهن، وإن كان من المتوقع أن يصل إلى مساحات من الصراع المنضبط / غير المنضبط في مراحل معينة ما يؤكد على أن الإشكالية الرئيسة فيما يجري من سيناريوهات مفتوحة، ومنها على سبيل المثال استمرار المواجهة الروسية- الأوكرانية، وانفتاح المشهد العسكري والاستراتيجي على مشاهد متعددة، والمسارات العسكرية ستستبق أي مسارات سياسية بدليل اتجاه الأطراف الرئيسة في بنية النظام الدولي لنقل رسائل عسكرية، حيث أقدمت روسيا مؤخراً على التصعيد العسكري بعد إدخال السفينة الحربية «ستويكي» التابعة للأسطول الروسي في بحر البلطيق، وإجراء التدريبات بإطلاق النار على أهداف افتراضية في بحر البلطيق.

ويتمركز الأسطول التابع للبحرية الروسية بشكل رئيس في كالينينغراد، وهي منطقة روسية تقع في بحر البلطيق بين بولندا وليتوانيا، وهما من أعضاء حلف شمال الأطلسي. فيما تقوم الصين بتدريبات عسكرية جوية وبحرية حول تايوان، اعتبرتها بمثابة تحذير صارم عقب زيارة قصيرة قام بها وليام لاي، نائب رئيسة الجزيرة إلى الولايات المتحدة.

والواضح أن التدريبات الروسية تبدو كرسالة استباقية بتحذير صارم، كما تصر الولايات المتحدة على التواجد في الفلبين بمزيد من القواعد العسكرية، واستجابتها للاستدعاء الفلبيني مع العلم بأن الولايات المتحدة، تتواجد في الفلبين منذ ثمانينيات القرن الماضي، بقواعدها العسكرية. وأن الوضع الحالي للولايات المتحدة، ووجودها العسكري داخل الفلبين لا يقل عن وجود 11 قاعدة عسكرية، رغم تأكيدات الفلبين بعدم استخدام الولايات المتحدة لقاعدة «سوبيك» البحرية وقاعدة كلارك الجوية، إلا أنه تم استخدامهما في السنوات الأخيرة من قبل الولايات المتحدة.

وفي المجمل من اللافت قيام الولايات المتحدة والدول الأوروبية بتحويل طاقاتهم ومواردهم من أوروبا إلى آسيا، ما يستلزم قيام الدول الأعضاء الأوروبية بإعادة موازنة كمية كبيرة من أصولها البحرية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل دعم جهود الولايات المتحدة لموازنة قوة الصين. ولكن من شأن نشر قوات كبيرة على المدى الطويل في آسيا، أن يستنفد موارد الأعضاء الأوروبيين إلى أقصى حد، ويترك أوروبا عرضة لأي تحركات روسية، وربما يتسبب ذلك في خلافات بين الدول الأوروبية بشأن أولوية ردع روسيا، أو موازنة قوة الصين.

في المجمل ستواصل الولايات المتحدة استهداف أي تحركات مناوئة – بصرف النظر عن مخاطرها – لتأكيد قوتها العسكرية في مناطق نفوذها بل، وفي امتدادات النطاقات الاستراتيجية.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.