عاصر مسيرة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، رجال كثيرون كانوا ملازمين له في مرحلة بدايات البناء والنهضة والتنمية بإمارة أبوظبي، ثم في مرحلة بناء الدولة الاتحادية، وأحد هؤلاء الذين حفروا أسماءهم بأسطر من نور في تاريخ دولة الإمارات، ولا يزال ذكرهم خالداً إلى اليوم، هو المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان، أول وزير داخلية في الإمارات، وأحد أبرز الشخصيات التي واكبت تأسيس الدولة وتوحيدها، والذي أسس وأدار باقتدار على مدى أربعة عقود جهازاً من أكثر أجهزة الدولة حساسية وأهمية لجهة توفير الأمن والأمان اللذين لا تقوم أي نهضة أو تنمية بدونهما، مستثمراً في ذلك شخصيته القيادية الملتزمة وما تعلمه في بيت والده الشيخ محمد بن خليفة آل نهيان، رحمه الله، من خصال حسنة وأخلاق حميدة وصفات الإيثار والبذل والعطاء ونقاء القلب والسريرة ورجاحة العقل.

كل هذه الصفات التي تربى عليها منذ نعومة أظفاره، ثم ما راكمه من معارف بفضل حرصه منذ يفاعته على حضور مجالس الكبار والتعرف على تجاربهم وحكمهم وما واجهوه من تحديات في الزمن الصعب، جعلته الشخص المناسب والخيار الأفضل لدى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، لتكليفه بعملية إرساء النظام والأمن في إمارة أبوظبي وترسيخ الأمان المجتمعي، وهي عملية أولاها الشيخ زايد بن سلطان عناية خاصة بمجرد توليه حكم الإمارة في سنة 1966.

وقد تم تعيين المغفور له الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان في 18 سبتمبر عام 1966، رئيساً لدائرة الشرطة والأمن العام ودائرة الجنسية والجوازات العامة، عطفاً على ما بذله من جهود أمنية ساهمت في شيوع اسمه بين الناس كشخصية حكيمة وإداري كفؤ وصاحب رؤية وطموح وأخلاق كريمة.

ورقي إلى رتبة لواء في 21 ديسمبر 1968.. وعين وزيراً للداخلية في إمارة أبوظبي في الأول من يوليو 1971. كما عين وزيراً للداخلية منذ قيام الاتحاد وعهد إليه بتولي مسؤولية الشرطة في إمارة أبوظبي. وظل يشغل منصب وزير الداخلية حتى عام 1990.

ولد الشيخ مبارك بن محمد في أبوظبي في العشرية الثانية من القرن العشرين ابناً ثانياً لوالده المغفور له الشيخ محمد بن خليفة بن زايد الأول آل نهيان، من زوجته الشيخة موزة ابنة تاجر اللؤلؤ الشهير أحمد بن خلف العتيبة، وتربى في كنفهما، وتعلم أسرار الحياة وتحدياتها من مجالس الكبار.

والده هو الشيخ محمد بن خليفة بن شخبوط بن ذياب بن عيسى بن نهيان آل نهيان (1909 ــ 1979)، الذي ارتبط بعلاقة متينة بابن عمه القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وزوجه ابنته الشيخة حصة (1929 ــ 2018) والدة المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وكان من كبار رجالات آل نهيان ورمزاً من رموز الحل والعقد في زمنه.

في 21 ديسمبر عام 1968 تمت ترقية الشيخ مبارك بن محمد إلى رتبة لواء، بعد أن حقق نجاحات في عملية تأسيس النظام الشرطي في إمارة أبوظبي والارتقاء به من خلال الاستثمار في الكادر البشري والعمل على تدريب وتأهيل الشرطة عبر ابتعاث أفرادها إلى كليات الشرطة والأمن العربية واستقطاب الكفاءات الشرطية من بعض البلاد العربية الشقيقة، ناهيك عن حرصه على السهر على راحتهم والاستجابة لمطالبهم ورعاية شؤونهم.

ولعل هذه النجاحات هي التي شجعت المغفور له الشيخ زايد بن سلطان على اختياره ليكون أول شخصية إماراتية تتولى حقيبة الداخلية بعد قيام دولة الإمارات في ديسمبر 1971، خصوصاً وأن الشيخ مبارك بن محمد كان معروفاً بتوجهاته الوحدوية وكان من الداعمين لفكرة أن المستقبل يتطلب تكاتفاً وترابطاً قوياً بين الإمارات السبع لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل وبناء دولة حديثة قوية راسخة، وهو ما تجلى بصورة واضحة في الأدوار البناءة التي لعبها في كل الاجتماعات والمداولات التي جرت تمهيداً لقيام دولة الإمارات بين أصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد.

وانطلاقاً من نظرته الاستشرافية الوحدوية تلك، تولى قيادة وزارة الداخلية في الدولة بحماس، وراح يركز في عمله وخطاباته على ترسيخ الفكر الوحدوي في الأجهزة الشرطية ووضع الخطط والسياسات الكفيلة بمواجهة تحديات التكامل والدمج والانضباط والالتزام في فترة قياسية، الأمر الذي أثمر عن توحيد قوات الشرطة في الإمارات لتصبح وزارة الداخلية الاتحادية صاحبة سلطة الإشراف الكامل على جميع الشؤون المتعلقة بالأمن، وأدى إلى إزالة الحواجز الحدودية بين الإمارات السبع.

استمر الشيخ مبارك بن محمد ممسكاً بمسؤوليات وزارة الداخلية الاتحادية، متحملاً أعباءها، محققاً النجاح تلو النجاح منذ عام 1971 وحتى عام 1990، حينما خرج من التشكيل الوزاري الخامس برئاسة المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، فخلفه في حمل حقيبة الداخلية حمودة بن علي.

وخلال عمله وزيراً للداخلية شارك الشيخ مبارك بن محمد في كل الاجتماعات العربية التنسيقية بين المؤسسات الشرطية، كما كان حاضراً ومساهماً في المؤتمرات الدولية ذات الصلة بقضايا الأمن والتعاون العالمي لمكافحة الجريمة.

ولم يترك منصبه دون أن يعد ويؤهل لبلده الصفين الثاني والثالث من القيادات الشرطية الشابة، بل إنه، فوق ذلك، يذكر له استحداثه وحدة للشرطة النسائية في فبراير 1978، مع إنشاء مدرسة للشرطة النسائية في أبوظبي، اعترافاً منه بدور المرأة إلى جانب شقيقها الرجل في تحمل المسؤوليات الوطنية، وإيماناً منه بأن المهام الشرطية تتطلب وجودها ضمن المنظومة الأمنية، وبالتالي ضرورة تأهيلها وتدريبها وتسليحها بالعلم والمعرفة.

إلى ما سبق، كان للراحل اهتمامات خاصة بالرياضة ولا سيما رياضة كرة القدم الأكثر شعبية، وذلك من منطلق أهمية الرياضة في بناء القيادات الشابة ورفع اسم الوطن في المحافل الخليجية والعربية والعالمية.

وقد تجلى ذلك في مساهمته بتأسيس أول «اتحاد لكرة القدم في الإمارات»، ووضع القاعدة التنظيمية له، فكان أن اختير لشغل منصب أول رئيس للاتحاد في الفترة من عام 1971 وحتى 1973. وهي الفترة التي شهدت أولى مشاركات منتخب دولة الإمارات في بطولة كأس الخليج، وحصول الإمارات على عضوية الاتحادين الدولي والآسيوي لكرة القدم.

في الرابع والعشرين من فبراير عام 2010 انتقل الشيخ مبارك إلى الرفيق الأعلى، فأعلنت الدولة الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام على ابن بار من أبنائها ورجل من رجالاتها المخلصين ممن نالوا محبة وتقدير الجميع. وقد تمت الصلاة عليه رحمه الله بمسجد الشيخ سلطان بن زايد في البطين.

إبان عمله وزيراً للداخلية حصل الشيخ مبارك على العديد من الأوسمة المحلية والعربية ومنها: وسام زايد الثاني، وسام عيد الجلوس للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وسام الملك عبد العزيز آل سعود، وسام النهضة من الدرجة الأولى للمملكة الأردنية الهاشمية، وسام عمان للسلطان قابوس بن سعيد، وسام الملك الحسن الثاني، وسام الجمهورية التونسية، وسام قوة دفاع أبوظبي 1966، وشاح الاستحقاق لدولة قطر، وسام الهلال الأحمر الخيري.

يذكر أن الفقيد اقترن بزوجة واحدة هي الشيخة عوشة بنت شخبوط بن سلطان آل نهيان، وله منها من الأبناء خمسة هم: الشيخ أحمد بن مبارك (توفي سنة 2003)، ومعالي الشيخ نهيان بن مبارك وزير التسامح والتعايش، والشيخ حمدان بن مبارك وزير الأشغال العامة من عام 2004 إلى 2013 ووزير التعليم العالي والبحث العلمي ما بين 2013 و2014، والشيخة فاخرة بنت مبارك والشيخ سعيد بن مبارك.

أما إخوته الأشقاء فهما الشيخ حمدان بن محمد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء سابقاً، والشيخ طحنون بن محمد آل نهيان ممثل حاكم أبوظبي في منطقة العين (وزير البلديات والزراعة الأسبق).

ومن أبرز أبناء الفقيد: معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش، الذي يقوم منذ سنوات طويلة بأدوار مشهودة على الصعد التربوية والثقافية والمعرفية، ناهيك عن جهوده الدؤوبة في سبيل ترسيخ قيم التسامح والتعايش من خلال توليه منصب وزير التسامح والتعايش في الحكومة الاتحادية منذ أكتوبر عام 2017، خلفاً للشيخة لبنى بنت خالد القاسمي. وقبل ذلك تولى معاليه العديد من المناصب في الحكومة الاتحادية.

حيث دخل الحكومة الاتحادية لأول مرة في عام 1990 حاملاً حقيبة التعليم العالي، وفي عام 1997 صار وزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي، ثم تقلد حقيبة التربية والتعليم في عام 2004، ليعود في أول تشكيل وزاري في عهد المغفور له الشيخ خليفة بن زايد ويمسك مجدداً حقيبة التعليم العالي والبحث العلمي. وفي عام 2013 تم تعيينه وزيراً للثقافة والشباب وتنمية المجتمع حتى عام 2016 حينما صار وزيراً للثقافة وتنمية المعرفة.

وحينما شكل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد

آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وزارة جديدة في فبراير عام 2016 استحدثت وزارة التسامح لأول مرة لتجسد وترسخ القيم والمبادئ النبيلة التي قامت عليها دولة الإمارات وفي مقدمتها قيم التسامح والمواطنة والتعايش والمساواة، فعهد بحقيبتها لمعالي الشيخ نهيان بن مبارك، علماً أن مسمى الوزارة تغير في عام 2020 ليصبح وزارة التسامح والتعايش.

وكان اختيار معاليه لحمل مسؤوليات هذه الحقيبة الوزارية الجديدة نابعاً من تاريخه وإسهاماته وتجاربه على مدى سنوات طويلة في مجالات الثقافة والفنون والمعرفة والتعليم التي تشكل مجتمعة جسراً للتفاهم والتعايش والمساواة بين بني البشر.

وهكذا راح معالي الشيخ نهيان بن مبارك ينفذ توجيهات وسياسات الدولة الخاصة بالتسامح والتعايش، وينشط داخلياً وخارجياً، مطلقاً المبادرات الإنسانية المتعددة ومنها نداء عالمي للتسامح حمل مسمى «نداء التسامح»، والذي جاء في إطار الاحتفال باليوم الوطني للتسامح والتعايش تحت شعار «على نهج زايد»، بمشاركة المئات من المؤسسات والهيئات والاتحادات المحلية والعالمية.