من المفاهيم التي تتكرر كثيراً في الخطاب السياسي العربي هو مفهوم العقلانية حتى أصبح مبتذلاً وسهماً لاستهداف من يختلفوا بالرأي.

وعادة ما يقرن العقلانية بسداد الرأي وأحياناً بأحقية الفعل السياسي أو أخلاقية العمل.

مفهوم العقلانية تطور في سياقات تاريخية وثقافية مختلفة. ولا يمكن الخلط بين هذه السياقات في فهم ما هو عقلاني أو غير عقلاني. وهناك أيضاً فارق بين ما يسمى عقلاني وغير عقلاني ولا عقلاني.

دعونا نستعرض المعاني المبطنة في هذا المفهوم المهم في العلاقات الدولية. في الاستخدام الحداثي وخاصة في مجال العلاقات الدولية فإن عقلانية تعني تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر.

مثلها مثل المذهب الفلسفي النفعي، والذي يرى في تعظيم المنافع غاية إنسانية. ولا يهم إذا كان هذا يتعارض مع مبادئ إنسانية أو إعلان حقوق الإنسان.

ولعل المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية تتمثل هنا ليس بالدعوة إلى المذهب النفعي، بل بتوصيف أن الدول بطبيعتها تسعى لتعظيم قوتها في النظام الدولي.

وبالضرورة على حساب القوى الأخرى، وإن أدى ذلك إلى حروب طاحنة، ولكن يجب الاعتراف هنا بأن مفهوم العقلانية قد يختلف في سياقات معينة. فالفهم الإسلامي للعقلانية ينبع من جذر الكلمة وهي العقل.

والعقل عند الفلاسفة المسلمين هو ما يضبط النوازع البيولوجية للجسد. فهناك تقنين لما يريده الجسد.

وهناك ضوابط للشهوات. والعقل هو ما يميز الإنسان والحيوان. فالإنسان هو حيوان عاقل، وغيره من الحيوانات ليس لها من ضابط في رصن الدوافع البيولوجية. ومتى ما أراد الحيوان أن يأكل افترس حيواناً آخر دون أية اعتبارات.

والعقل يرشد الإنسان في أن تعظيم المنافع قد يكون مهالك للإنسان. وليس هناك من عبرة مثل ما فعل الإنسان في الطبيعة.

وفي سبيل تعظيم المنفعة عمل الإنسان في البيئة ما سيدفع الأجيال القادمة أثماناً فادحة. وكان لزيادة الاستهلاك المفرط آثار شديدة على البيئة التي يعيش فيها الإنسان.

وقس على ذلك الحروب بين البشر، والتي كان سببها التوسع والحوز على موارد جديدة لزيادة خزينة الدول. واستخدام هذه الموارد لتوسع أكبر، والذي أدى بالضرورة إلى استعباد بني البشر وإهلاك أرواح كثيرة، ولا تزال تجري هذه الأمور بوسائل حديثة.

ولكن عود على بدء، هل تمثل العقلانية مفهوماً مهماً يمكن فهم العلاقات الدولية من خلالها. في حقيقة الأمر إن هذا المفهوم بالمعنى الحالي وهو تعظيم المكاسب يكاد يكون المفهوم السائد في السياسة الخارجية.

بمعنى أن التفسير للسياسة الخارجية للدول تحلل وتدرس على أنها تحقيق أكبر قدر من المكاسب، وإن بدت أنها تخدم غايات أخرى نبيلة.

ولكنَّ الباحثين منقسمون على فهمهم للعقلانية وإن أقروا بأفضليتها في تفسير الظواهر السياسية.

فالبعض يرى العقلانية من خلال نتائج العمل السياسي. فإذا كانت النتائج إيجابية نعتها بالعقلانية، وإذا لم تكن كذلك قال إنه فعل غير عقلاني.

وقد ناقش باحثان وهما جون ميرشامير وسباسشتين روزاتو هذا الموضوع في دراسة جديدة بعنوان كيف تفكر الدول (2023)، وذكرا أنَّ صحَّة القرار أو نتيجته مستقلة عن العقلانية. فقد يتخذ السَّاسة قرارات من وجهة نظرهم تعظِّم مكاسبهم، ولكن تكون لها عواقب وخيمة.

وسيظل السجال دائراً حول دور العقل وهل مهمته لجم الجنوح لتحقيق المصالح أم الدفع لتعظيم المكاسب. وقد قال المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم