محاضرة لويس عوض «التطورات الثقافية في مصر منذ 1952» كانت بخلاف محاضرته «إمكانيات الحوار في المجتمع المصري»؛ لم تكن نقداً عنيفاً مباشراً وبالاسم لجمال عبد الناصر، كما أوهم تقديم مجلة «الآداب» قراء هذه المجلة في العالم العربي، بل كان نقده له نقداً مبطناً كامناً بين سطور المحاضرة.

مرة واحدة نقده لويس عوض بالاسم، وذلك ضمن الفقرات الأخيرة من المحاضرة. وقد جاء هذا النقد بالاسم في سياق حديثه عن مسرحيات ظهرت عقب عام 1967، مباشرة، التي قال عنها إنها تقول الشيء نفسه بأساليب متباينة.

بعد عرضه لموضوعات بعضها قال: «ويمضي الأمر على هذا النحو في العديد من المسرحيات، خمس أو ست، هنالك رمز السلطان الكامل أو الولي أو الملك، الذي تكون طيبته أو أخلاقه القومية ضحية لفساد حاشيته. وهذا يفسر (يقصد تفسير أصحاب الخمس أو الست مسرحيات، وذكر منهم فقط علي سالم وسعد الدين وهبة ورشاد رشدي) لماذا خسرنا حرب 1967». وقبل أن يسمي عبد الناصر باسمه أشار إليه إشارة واضحة، فقال: «أنا شخصياً رفضت بعض هذه المسرحيات بسبب شعوري بأن هؤلاء الناس يهينون الشعب المصري. أعني أنك لا تستطيع أن تمضي في القول بأن كل فرد في مصر كان فاسداً باستثناء السيد العظيم. وقد مضى الأمر على هذه الوتيرة حتى غثيت نفوس الشعب منه».

سماه باسمه في هذه الأسطر: «كانوا يريدون أن يلقوا اللوم على النظام ولم يكن باستطاعتهم، مثلاً، أن يهاجموا عبد الناصر. لنقل إنه في جميع الحالات كان عبد الناصر هو أوديب أو هذا أو ذاك من السلاطين. لم يكن باستطاعتهم أن يهاجموه. ولذا هاجموا صلاح نصر مدير الشرطة أو عامر أو أي شخص آخر. ومضى الأمر على هذا النحو حتى غدا مقرفاً».

المحاضرة في معظمها كانت تهجماً عنيفاً وشرساً ومغرضاً على كل أعمال نجيب محفوظ الروائية وكل أقاصيصه من عام 1945 إلى تاريخ إلقائه محاضرته في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971 بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد، حيث في ذلك التاريخ كانت مجلة «الإذاعة والتلفزيون» لا تزال توالي نشر عمله «المرايا» مسلسلاً. وهو العمل الذي بدأ الهجوم عليه بالقول بأنه محاولة رديئة في رسم الشخصيات.

وقد فاض هذا الهجوم على أعماله الأدبية إلى التهجم على شخصه. قال عنه: «كان كالعادة غير ملتزم بأي شيء وكان يعيش في نوع من العزلة، موظفاً كتابياً صغيراً في دائرة حكومية بوزارة الأوقاف. وكان كإنسان، لا يؤمن بشيء، ويحاول دائماً أن يعيش في عزلة. لا يواجه إنساناً ولا يدعي أية مبادئ، ولا يلتزم بأية فكرة. ولذا أُطرّح جانباً. أما الأشخاص الذين كان باستطاعتهم أن يجدوا بعض الجمهور فكانوا اليساريين الشبان».

يقول لويس عوض عن سنوات الحرب العالمية الثانية في مصر: «كانت تلك السنوات الحرجة هي التي كونت النظرية السياسية المصرية، والثقافة أيضاً. الأفكار الخاصة بوجوب إصلاح الأدب المصري أو الأدب العربي بشكل عام أخذت في الظهور في تلك الأيام. تكونت مدرسة أدبية جديدة. نجيب محفوظ كان آنذاك صغيراً. كان يحاول محاولاته الأولى فيما دعاه بالواقعية. كانت واقعية على طريقة بلزاك. وبعد نجيب محفوظ مباشرة بين 1945 و1950 ظهرت مدرسة ناشئة من خريجي الجامعة الجدد: يوسف إدريس ونعمان عاشور وسواهما، بدأوا الطريقة التي دعيت الواقعية، متبعين النموذج الروسي، كتّاباً مثل غوركي وسواه. لقد أخذوا بالتجربة الروسية وظنوا أن من واجبهم أن يكتبوا عن الطبقة العاملة المصرية، وعن الفلاح المصري إلخ.. وهكذا عندما جاءت الثورة كان الاتجاه السائد في الأدب المصري، الاتجاه الواقعي الاشتراكي».

رد عليه مترجم محاضرته المنشورة في مجلة «الآداب»، محمد يوسف نجم، فقال: «هذا الرأي من المحاضر يحتاج إلى تعديل وضبط. فنجيب محفوظ لم يكن كاتباً صغيراً بين 1945 و1950. ففي هذه الفترة أصدر رواياته الواقعية ابتداءً من (القاهرة الجديدة)، حتى (بداية ونهاية). أما نعمان عاشور ويوسف إدريس فقد كانا كاتبين ناشئين آنذاك. وكان أول كتاب خرج به يوسف إدريس على الناس مجموعة (أرخص ليالي) سنة 1954. أما الاتجاه الواقعي الاشتراكي، فلا أعلم أنه كان سائداً في الأدب سنة 1950».

ادعى لويس عوض في السنوات التي حددها ما بين عامي 1945 و1950، أن نجيب محفوظ لم يستطع أن يجد جمهوراً عريضاً معللاً ذلك بوقوفه بين القديم والجديد.

وبضمير منفصل دال من الناحية النحوية على تعظيمه لنفسه، ادعى أنه «في ذلك الوقت كنا نحاول أن نقنع الناس جميعاً بأن لدينا كاتباً جيداً اسمه نجيب محفوظ ولكن لم يكن أحد يصدقنا».

ومع محاولته هذه (محاولته بدون نون العظمة التي استعملها) إلا أن «الناس جميعاً» اتجهت إلى «مدرسة من البرجوازيين البرّاقين». ذكر منهم إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وأمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبد الله. هؤلاء الذين قال عنهم إنهم تخصصوا في الأدب البرّاق - يعني بالأدب البرّاق الأدب الرومانسي الذي هو بمنظار الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية لامع في مظهره وتافه في مضمونه - حكم لهم بأنه كان لديهم جمهور كبير. وحكم على نجيب بأن قراءه كانوا قلة!

رد عليه محمد يوسف نجم، قائلاً: «ظهرت آثار معظم هؤلاء الروائيين الذين ذكرهم المحاضر بعد أن استوى نجيب محفوظ على عرش الشهرة في مصر والعالم العربي، وكنا نَدْرس آثاره في الجامعة الأمريكية قبل سنة 1948. ولم يكن بحاجة إلى تزكية أو دعاية من الدكتور لويس عوض الذي لم يكن آنذاك معروفاً باهتمامه بالأدب العربي، بل كان ما يزال في مرحلة كرستوفر كوديل وبونامي دوبريه وغيرهما من أساتذته. ولم يكتب باعترافه شيئاً عن نجيب محفوظ قبل صدور (اللص والكلاب): انظر كتابه (دراسات في النقد والأدب ص 50). أما هؤلاء الكتاب فقد كان أسبقهم إلى نشر الرواية محمد عبدالحليم عبدالله الذي أصدر (لقيطة) سنة 1947. أما يوسف السباعي فقد أصدر روايته الأولى (أرض النفاق) سنة 1949، وإحسان أصدر روايته الأولى (أنا حرّة) سنة 1954، وأمين يوسف غراب أصدر روايته الأولى (ست البنات) سنة 1954».

رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب» صدرت عام 1961. وكتاب لويس عوض «دراسات في الأدب والنقد» صدر في فبراير (شباط) عام 1963. والكتاب مجموعة من المقالات والبحوث نشرت في جريدتي «الجمهورية» و«الأهرام» خلال عامي 1961 و1962، الأولى كتب فيها ابتداءً من عام 1960، والثانية كتب فيها ابتداءً من عام 1962.

في الباب الثابت في مجلة «الآداب» (قرأت العدد الماضي من «الآداب»)، الذي كتبه سامي خشبة تناول محاضرة لويس بالدحض واتهمه بالكذب. ومن بين ما كذبه فيه ادعاؤه إقناع الناس بين عامي 1945 و1950 بأن نجيب محفوظ روائي جيد، لما رأى – حسب زعمه – أن قرّاءه قلة!

قال سامي خشبة: «وأنا لا أعرف أن الدكتور كان من بين المدافعين عن نجيب محفوظ أو المبشرين به في تلك السنوات. وأذكر أن الاستشهاد بنجيب محفوظ في مجال الدفاع عن الأدب المصري لم يبدأ إلا في عام 1956، حينما كتب الأستاذ سلامة موسى – للأسف – يقول إنه ليس هناك أدب مصري أو عربي يستحق أن يقرأ. وكان من بين المدافعين عن نجيب محفوظ يوسف السباعي على سبيل المثال. وكانت (زقاق المدق) هي موضع الاستشهاد عند كل المدافعين». وللحديث بقية.