أقلام الرؤساء والزعماء، دائماً ما يكون حبرها مثار اهتمام وترقب، يزداد الشغف لقراءتها أكثر، عندما يكون كاتبها هو ساكن البيت الأبيض، وتتسارع وتيرة اللهفة حول رسائل ما يكتبون عندما تتعلق الكتابة، بأحداث كبرى، يكون العالم طرفاً فيها.

يوم السبت 18 نوفمبر (تشرين الثاني)، طالعتنا صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، بمقال للرئيس الأميركي جو بايدن، حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

لا شك أن المقال في هذا التوقيت مهم، وموضوعه أكثر أهمية، لفتت رسائله كل دوائر صناعة القرار حول العالم، لم تغِبْ عن سطور المقال، رائحة القلق من تمدد الزلازل السياسية، من غزة إلى «البيت الأبيض»، عبوراً بالبحر المتوسط والمحيط الأطلنطي.

دوى جرس الإنذار في أذن الرئيس الأميركي، بأن ثمة غيوماً في سماء ولاياته، بدأت تتشكل ببصمات الغضب الدبلوماسي، داخل أروقة وزارة الخارجية الأميركية، ووكالات التنمية، ومظاهرات مناهضة لإسرائيل، وأخرى مؤيدة لفلسطين، وأحداث عنف غامضة على أساس عرقي وديني وطائفي، فضلاً عن انشقاقات تلوح داخل الحزب الديمقراطي، في توقيت دقيق كشفته نتائج أحدث استطلاعات الرأي، التي أكدت أن بايدن خسر من شعبيته إحدى عشرة نقطة، في عقر داره الديمقراطي، منظم ضربات قلب الرئيس بايدن، لم يعمل بكفاءته المعهودة في تلك الليلة، حاصرته الهواجس والمخاوف، من الوصول إلى صناديق الاقتراع العام المقبل، فالتحديات الداخلية، باتت جارفة، فكر في مدى قدرته على احتمال حليفه الإسرائيلي الذي بات عبئاً عليه، استيقظ من نومه على ضرورة كتابة رسائل إنقاذ قبل فوات الأوان، لا سيما أن أمواج الغضب تتصاعد عربياً وإقليمياً ودولياً، على المستويين الشعبي والرسمي، فالخروج من حصار ساكني البيت الأبيض، يتطلب تغييراً في قاموس التعاطي مع أزمة متشابكة ومعقدة، لم يكتب بايدن في مقاله الدواء الصالح لهذا الداء، لكنه وصف المسكنات والمهدئات للرأي العام المهموم بالحرب على غزة، قفز في مقاله على أنهار الدم، والدمار الوحشي، والقصف العشوائي، والإبادة الجماعية ليتحدث عن مرحلة ما بعد الحرب، برغم أن نتيجة الحرب لم تحسم بعد، وأيضاً برغم أنه يمتلك مفتاحاً رئيسياً في الضغط على زر الآلة العسكرية الإسرائيلية لكي تتوقف.

واصل حبر بايدن التدفق، لكنه لم يأتِ بجديد عندما كتب في مقاله، أن الشعب الفلسطيني يستحق أن تكون له دولته، من دون أن يحدد جدولاً زمنياً، أو آلية تنفيذية للوصول إلى هذه الدولة المنشودة والمطلوبة، فلسطينياً وعربياً ودولياً.

هنا ذكرني الرئيس الأميركي جو بايدن بسلفه جورج بوش الابن، عندما أراد أن يغزو العراق، فاستبق خطوته بمداعبة الرأي العام العربي، بأن صرح بضرورة وجود دولتين إسرائيلية وفلسطينية، تعيشان جنباً إلى جنب.

توقع العرب أن يفي بوش الابن بوعده، لكن وعوده تبخرت، وأنهى مهمته في غزو العراق، ثم غادر البيت الأبيض، من دون أن يتحقق وعده الكاذب، ما أشبه الليلة بالبارحة، يتغير سكان المكتب البيضاوي، لكن السياسة واحدة، فبرغم أن مقال بايدن يحمل للوهلة الأولى انطباعاً بأن ثمة تغييراً في المواقف الأميركية، تجاه القضية الفلسطينية، فإن بين سطوره بعض الألغام والألغاز، فمثلاً نجده يشترط وجود سلطة فلسطينية بشروط واشنطن، ويطالب المجتمع الدولي بتوفير الموارد لدعم «شعب غزة»، في أعقاب هذه الأزمة مباشرة.

وهنا نتساءل: متى تتوقف الحرب؟ ولماذا لم يدعُ بايدن في مقاله إلى إيقاف الحرب؟ كما أن ما استوقفني هو استخدام الرئيس الأميركي لتعبير «شعب غزة» بدلاً من الشعب الفلسطيني، كأنه يتبنى وجهة نظر إسرائيل بفصل قطاع غزة، عن الضفة الغربية، وهذا يتناقض مع آرائه في المقال نفسه، عندما قال: ينبغي أن يعاد توحيد غزة، والضفة الغربية، مجدداً تحت هيكل حكم واحد.

لا شك أن المقال حمل قلقاً بالغاً انعكس على مضمونه، لكن أيضاً لا شك أن به رسائل قد تكون مهمة، تتطلب من الرئيس الأميركي الوفاء بتنفيذها، لا سيما الرسائل التي تتعلق بحل الدولتين، ورفض التهجير القسري، داخل وخارج غزة، فالقلق والمخاوف التي عبّر عنها حبر ساكن البيت الأبيض، هي بالفعل حقيقية وموجودة على أرض الواقع، وبتداعياتها قد تنتقل الحرائق من حزام الشرق الأوسط، إلى أحزمة العالم، من دون استثناء وبالتالي، فإن هذه اللحظة بما فيها من تشابكات وتقاطعات ومخاطر لن يكون أحد بعيداً عن تأثيراتها، وأن الحرائق ربما تكون عابرة للقارات، ومن ثم فإن هذا التوقيت لم يعد يتحمل التجاهل أو غض الطرف، بل الأمر بات يتطلب نوعاً من الذكاء الاستراتيجي الذي يحمي الجميع، قبل أن تسقط في الهاوية.