«التاريخ» كلمة لها تعريفات عديدة في معاجم اللغة، ولها دلالات متناقضة تعجز المعاجم عن الايفاء بسردها وتوضيحها وتفسيرها، والتاريخ مرآة تعكس حقيقة الإنسان وأهواء الإنسان، وتتأرجح مرآة التاريخ بين الحقيقي والإنساني. الحقيقي لا تشوبه شائبة، لا ناقصة ولا زائدة، بينما الإنساني على هوى الإنسان الذي يضيف على نفسه جمالاً ويمحي عن نفسه قبحه، ويضيف قبحًا على خصمه و يمحي عنه جماله. الحقيقي مرآة تعكس الواقع ولا إرادة للمرآة فيما تعكس، فهي مثل العلاقة بين الشمس والأرض، من انعكاس للضوء وإحداثًا للظل، بينما الإنساني سطور ترسمها إرادة الإنسان على هوى مصالح الإنسان دون أي اعتبار لأمانة التدوين وحقائق الواقع.. بمعنى أن مرآة التاريخ صدق تطمئن له النفس ويصدقه العقل، بينما سطور التاريخ مزيج من الكذب المقصود وبعض من حقائق مختارة لا تطمئن لها النفس ولا تستحق احترام العقل.

التاريخ نهر تجري مياهه طالما أن حياة الإنسان الذكي تجري أنفاسه بين شهيق وزفير، وهذا النهر الأبدي أبدية الإنسان يجري بين ضفتين بنيتهما مختلفة. ضفة طبيعية لم تمسها أهواء الإنسان وتربتها مكشوفة واضحة وهي بالعرف الأخلاقي بريئة. الضفة الأخرى وهي ضفة انسانية، حفر الإنسان تربتها وعَمَّرَها وأشغلها بصنوف انشطته ومعاركه وخيره وشره، وصدقه وكذبه، وفضائله ورذائله، أي جمع من إنتاجه العقلي وانبعاثاته النفسية، وهي بالعرف الأخلاقي بعيدة عن البراءة بعد الكذب عن الصدق.

جميع أنشطة الإنسان، على مسار الزمن، يمكن تعقبها و تحسسها واستيعابها والاطمئنان إلى صحتها، إلّا تلك الأنشطة المتعلقة بعلاقة الإنسان بالإنسان فإنها في جلها مشوهة بإرادة الإنسان. الوجه الحقيقي للتاريخ يعطي صورة صادقة لأنشطة الإنسان على مسار الزمن مثل حركة المعرفة والعلم والاقتصاد والمجتمع والأدب والفن، وحتى إنه يمكن التنبؤ بمستقبل هذه الأنشطة.

لأن الإنسان عاجز أمام نفسه في رسم تاريخه الإنساني بصدق وأمانة، فإنه يلقي تبعة عجزه على تاريخه المسكين المطعم بالكذب والاساطير، متسائلًا: «هل يعيد التاريخ نفسه؟». السؤال مزيج من ذكاء يصطنع القدرة على التنبؤ بحركة التاريخ وبراءة تصدق أكذوبة التاريخ المسطور وخبث يوحي بصدقية التاريخ المسطور!!! وكيف يعيد التاريخ نفسه، إذا كان التاريخ هو الإنسان، والإنسان هو الإنسان، مثل الأرض تدور حول الشمس ويتعاقب عليها الليل والنهار.. وحركة التاريخ مثل تعاقب الليل مع النهار، وليس إعادة لا لليل ولا للنهار، والشمس هي الشمس والأرض هي كوكب سيار حول أمها الشمس، فاذا كانت الشمس تعيد نفسها، فإن التاريخ يعيد نفسه، والإنسان يدور حول علاقاته بنفسه في تعاقب بين الخير والشر، مثل تعاقب النهار والليل، فلا خير الإنسان زاد ولا شره نقص.

ومن نكد الإنسان على نفسه أن الصورة التي يعكسها تاريخه المسطور هي الصورة الإنسانية المشوهة التي تتراءى للأجيال اللاحقة، وليست الصورة الحقيقية الواضحة الخفية عن الإنسان، ولكنها محسوسة في أعماق النفس لأن أهواء النفس هي التي رسمت الصورة المشوهة، والناس على هوى ما تصنع الناس وليس على صراط حقيقة الناس. والإنسان يعرف نفسه جيدًا، ولا يمكن أن يخفي عن نفسه وفي قرارة نفسه أنه بطبعه وطبيعته يفتعل الأكاذيب للتملص من تبعات الحقيقة وآثارها غير المرغوب فيها او التي تضر بمصالحه العليا.. هذا الطبع الإنساني المشوه والمرتبك والخائف والطموح هو الذي يحفز العقل على اعتماد فنون الكذب والدجل والأوهام لرسم تاريخه.

هذا الطبع الإنساني في رسم تاريخه له تاريخه القائم بذاته، ومن الملاحظ من خلال قراءة ما دوَّنه المؤرخون من سطور التاريخ، منذ كتاب «التاريخ» للمؤرخ الإغريقي هيرودتوس The Histories, Herodotus، قبل 2500 عام إلى نهاية ما قبل الحقبة التاريخية المميزة التي بدأت بالحرب العالمية الأولى إلى اليوم، فإن مصداقية المدونات التاريخية تتفاقم الشكوك فيها مع مرور الزمن. هذا يعني أن المدونات التاريخية في العهد الإغريقي أكثر مصداقية وأقل كذبًا من العهد الهيليني الذي يمثل الحقبة بين الإغريق والرومان، وإن المدونات التاريخية في العهد الروماني أقل مصداقية وأكثر كذبًا من العهد الهيليني، وهكذا تتناقص مصداقية المدونات التاريخية وتزداد كذبًا باضطراد مع مرور الزمن.. ويمكننا أن نضيف هذه الظاهرة الشاذة في رسم التاريخ الى مجمل القضايا التي تحتاج الى حلول انسانية جادة وصادقة وأمينة، مثل قضايا الفقر والحرب والعنصرية والبيئة والنمو السكاني.

الحقبة التاريخية الحديثة، بدءًا بالحرب العالمية الأولى مرورًا بجميع الحروب الأخرى الى حرب غزة اليوم، حيث الحضارة الغربية تدعم جرائم ضد الإنسانية وتبررها، تمثل نمطًا تاريخيًا وإنسانيًا يتميز عن جميع الحقب التاريخية السابقة، إذ أن الحقبة التاريخية التي نعيشها اليوم وصلت المدونات التاريخية فيها ومنها الى المدى القريب من تصفير الصدق وتضخيم الكذب. الإعلام اليوم قد حلَّ محل التَأْرِيْخ، وصار لسان حال الإنسان ومرجع التاريخ، وهذا الإعلام ليس مجرد كذب، ولكن كذب يحارب كذبًا، وتحول الإعلام من كشف للحقائق من أرض الواقع الى ساحة حرب بين الأكاذيب. الكذب قد استقر في جسم التاريخ و أصبح لسانه وعقله وروحه، وهي لحظة الصفر للصدق وجلال الكذب، ومع تصفير الصدق في التاريخ تكون العلاقة بين الإنسان والإنسان صفرًا، ولا ندري ماذا سيكون مصير الإنسان مع تصفير العلاقة الإنسانية.. أجيالنا القادمة، إنْ هي كُتِبَ لها في الوجود بقاء، فما الذي ستجنيه من تاريخ (لا) إنساني صفر الصدق عظيم الكذب؟!!!