لا أدري إن كان بالإمكان سحب جائزة نوبل للسلام من شخصيات أثبتت لاحقًا أنها غير جديرة بها، بل وأثبتت أنها أكثر جدارة بجائزة «الحرب والدمار» أو «العنف وإراقة الدماء»، فكيف لمجرمين وسفاحين وقتلة أمثال مناحيم بيجن زعيم مجموعة الأرجون الصهيونية التي ارتكبت العديد من المجاز عام 1948، وعلى رأسها مجزرة دير ياسين أن يكافأ عام 1977 بجائزة نوبل للسلام؟ وأمثال شمعون بيريز الذي ارتكبت خلال فترة توليه رئاسة وزراء إسرائيل العام 1996 عدة مجازر مفجعة خلال العدوان على جنوب لبنان كان أبرزها مجزرة قانا التي راح ضحيتها حوالي 105 لبنانيين وإصابة نحو 150 شخصًا آخرين؟ ناهيك عن إسحاق رابين «أسطورة السلام المزيفة»، والذي لا يمكن تبرئته من أعمال قتل وتنكيل ارتكبت في عهده بحق الفلسطينيين.
ماذا عن أون سوتشي التي تشغل منصب مستشار الدولة في ميانمار أي بمثابة رئيس الوزراء، والتي حصلت على جائزة نوبل للسلام سنة 1991م من أجل دعمها للنضال اللاعنفوي وهي مرتكبة مذابح أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار؟ ماذا عن وزير الخارجية الأمريكية الأسبق ذائع الصيت هنري كيسنجر الذي توفي قبل فترة قليلة، وكان يلقب بـ«الشيطان الملاك»، وهو أيضًا نال جائزة نوبل للسلام في العام 1969، في فترة كان يخطط ويدير الحرب الأمريكية على فيتنام، والتي كانت جريمة بحق الشعب الفيتنامي راح ضحيتها مئات الآلاف من الفيتناميين؟
وهنا يكمن السؤال، عن أي سلام يتحدثون وما هي المعايير الحقيقة للسلام بقاموسهم؟ لماذا لم يتم سحب جائزة نوبل للسلام من الأشخاص الذين تلوثت أيديهم بدماء الأبرياء؟ هذه الأمثلة تجعلنا نتساءل عما إذا كان من المنطقي تكريم شخصيات بنوبل للسلام، في حين لم تلتزم بالسلام، وارتكبت أعمالًا مروعة، ولوثت يديها بدماء الأبرياء، أو ربما تدعونا للتفكير فيما إن كان الأصح أن تُمنح هذه الجائزة للشخصيات المحبة للسلام بعد موتها، حتى نتأكد تمامًا أنها التزمت طيلة حياتها بالسلام.
فالسلام ليس مجرد كلمة عابرة، بل هو أساس الحياة، وركيزة حياة الشعوب، بانعدامه تتلاشى أسباب الرخاء، وتتراجع كل فرص الحياة، ويعدو العالم أسودًا يسوده الدمار والقتل والحرب وسفك الدماء، وقد كان باعتقادي كسائر الناس أن «جائزة نوبل للسلام» هي مكافأة لبشر رسّخوا أرقى وأسمى معاني السلام ونشروه بين المجتمعات والشعوب، وأنها ستأخذ على عاتقها مسؤولية نشر معاني السلام لكل البشر على اختلاف أعراقهم وألوانهم ودياناتهم، وأنها ستحيي في نفوسنا شعارات السلام وعدم التحيز والتمييز.
لكن من الواضح أنها أثبتت لي - ولنا جميعًا - أن «السلام» الذي تدّعيه هذه الجوائز المنحازة ليس سلامًا حقيقيًا كالذي نعرفه، بل سلامًا زائفًا يدعيه أشخاص ربما يكونون عديمي الإنسانية الرحمة والرأفة، ويُبيح دماء الضعفاء.
أنا مثلاً لا أستبعد فوز رئيس وزراء إسرائيل حاليًا بنيامين نتنياهو بجائزة نوبل للسلام بعد خمس أو عشر سنوات مثلاً، لم لا؟ سلفه بيجن أكبر مثال على ذلك، ومن الواضح لنا جميعًا أن هذه الجوائز تبدو متجهة بشكل صريح نحو تعزيز أجندات سياسية أو اقتصادية، وتجاهل حقوق الضعفاء والمظلومين.
ويحق لنا أن نسأل هنا: ما هي الرسالة التي تبعث بها جائزة نوبل للسلام عندما يتلطخ سجلها بأسماء مجرمي وسفاحي حروب لن ينسى التاريخ ما ارتكبوه من جرائم قتل بحق الآلاف من البشر؟ أم أن مفهوم البشرية والإنسانية له معانٍ أخرى عندما يتعلق الأمر بـ «الجوائز العالمية»؟ ولم تتوقف الجائزة عند هؤلاء فقط من ذكرناهم، فهناك العديد من الشخصيات لا تستحق الجائزة، والتي أثبت أن القائمين على الجائزة يغضون الطرف على التجاوزات التي تتم من هؤلاء الذين يحصلون على جائزة السلام الملطخة بالدماء، وأن جهود هؤلاء الأشخاص في تحقيق السلام والتعاون الدولي ليست سوى أكذوبة لا يصدقها العاقل.
في حقيقة الأمر إن أغلب هؤلاء المجرمين الحاصلين على نوبل للسلام لم يدخروا جهدا لكي يكملوا مسيرتهم في تحقيق السلام المزيف أمام المجتمع الدولي والبدء في الإعداد للحروب والإبادة الجماعية، وهذا ما نشاهده اليوم على الساحة في قطاع غزة الذي ينزف كل يوم على أيدي حاملي هذه الجائزة، وفي غيرها من مناطق العالم.
لا بد من إعادة النظر في آليات المرشحين للجائزة، خصوصًا أولئك العاملين في مجال حقوق الإنسان، بحيث يكون أهمها وضع شروط للحصول على الجائزة تتمثل في أن الحاصل على الجائزة لا يجب أبدًا أن يخلط العمل الحقوقي بالعمل السياسي، وإذا لم يحترم هذا الشرط تسحب منه الجائزة في المستقبل، لأنه قد حصل عليها نتيجة لعمله في العمل الحقوقي الإنساني، وهو لا يحمل أي وجهة نظر سياسية، ولا يعمل لصالح فصيل سياسي بعينه. إن هذه الجوائز أفرغت القيم الإنسانية من مضمونها، وتربعت على قمة أحزاننا، فمنعتنا عن محاسبة الذين تسببوا بكل هذه المآسي، كما استُخدمت هذه الجوائز كأدواتٍ لتهميش بعض المجتمعات، وإقصائهم، وقرارات منحها كانت دائمًا سياسية، لكن لم يعترف أحدٌ بذلك.
لذا يبدو أننا بحاجة إلى جوائز أخرى، أكثر حيادية وشفافية، تنصر الضعفاء، وتكرّم بحقّ الشخصيات التي تعمل بشكل جاد ومستمر من أجل السلام والعدالة ونشر قيم الإنسانية في المجتمعات، يجب أن تكون هذه الجوائز موضع تقدير وتشجيع للأفراد والمنظمات التي تسعى لتحقيق التغيير الإيجابي في المجتمعات المضطهدة والمظلومة، يجب أن تشجع هذه الجوائز على القيم الأخلاقية، وتكافئ الشجاعة والتضحية في سبيل السلام والحقوق الإنسانية.
الأحداث علمتنا أنه لا يمكن تبرئة الكثير من المنظمات والمؤسسات واللجان الدولية من تهم مثل التحيز أو حتى الفساد. منظمة بحجم الأمم المتحدة صوَّتت لصالح الغزو الأمريكي للعراق بدعوى امتلاك نظام صدام حسين حينها سلاح دمار شامل، وربما تتذكرون صورة وزير الخارجية الأمريكي وقتا كولين باول يحمل زجاجة في يده داخل الأمم المتحدة، ويعرضها للعالم على أنها سلاح كيماوي، ورغم افتضاح هذه الكذبة، لم تتم محاسبة مطلقيها، والذين استخدموها لغزو العراق وتدميره. منظمات دولية أخرى مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا»، ينخرها الفساد، وغيرها الكثير.
لا يمكن أن نعيش في عالم بلا أخلاق، ولا يمكن أن نقبل أن المثل العليا التي رسمها الغرب لنا مثل الديمقراطية والحرية والمساواة وجائزة نوبل للسلام ليست سوى هياكل يمكن اختراقها، وأدوات لتمرير السيطرة على عقولنا ومقدراتنا، لذلك يجب أن نخلق بأنفسنا مثلنا العليا، وجوائزنا الخاصة بنا، ولا شك أن هذا الأمر يحتاج إلى تراكم ثقافي وأسس عقلية يقوم عليها، ونحن لسنا قريبين من ذلك مع الأسف، لكن لا ضير أن نبدأ الآن، ونقدم للعالم رؤيتنا الصادقة حول العدل والإحسان والسلام.