يوفّر لبنان كل أشكال الظواهر المتناقضة بسبب تركيبته الغريبة، وربما الفريدة، بما يطرح العديد من التساؤلات (المشروعة بطبيعة الحال) حول أسس الوضع القائم واستمراريته، وفي الوقت ذاته تساؤلات لا تقل أهميّة تتصل بكيفيّة الخروج من المآزق المتراكمة التي ترخي بثقلها على كاهل المواطنين.

ففي لبنان، أزمة مستفحلة وفي الوقت ذاته حركة فوق العادة في قطاعات الترفيه والخدمات والمطاعم والسياحة التي لطالما تميّزت بها البلاد. ليس المقصود انتقاد ذلك و»قطع» أرزاق العاملين في تلك القطاعات، إنما الإشارة إلى كيفيّة تأقلم شرائح معيّنة من المجتمع اللبناني مع الأزمات وتكيّفها مع مشاكلها بطريقة ما تعطي الانطباع وكأن الأمور على ما يُرام في البلاد.

الحقيقة، الوضع ليس كذلك. فلتكن ثمة حركة ونشاط فاعل في قطاع المطاعم والسياحة الشتويّة والصيفيّة، لا ضير في ذلك، فهذه أيضاً توفّر فرص عمل بالمئات للشباب والشابات. ولكن الارتكاز الحصري على المبادرة الفرديّة في قطاع واحد من دون سواه ليست كفيلة بإخراج البلاد من كبوتها.

ثمّة حاجة جديّة لاتخاذ الإجراءات التصحيحيّة، لا بل الإصلاحيّة، المطلوبة على الصعيدين المالي والنقدي كما على المستوى المصرفي، لتحقيق المطلوب للخروج من الأزمة، في خطواتها الأولى. في لبنان العديد من الخبراء الأكفاء، ومن بينهم من كتب العشرات من الدراسات والاقتراحات التي تتضمن أفكاراً هامة جداً وقادرة على تحريك المياه الراكدة في المجال الإصلاحي المتعثر منذ عقود.

وثمّة من يسأل كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل الشلل المؤسساتي شبه التام الذي تعيشه البلاد، وهو تساؤل مشروع حتماً لأن دوران العجلة الاقتصاديّة بكامل طاقتها ورفع نسب ومعدلات النمو السنويّة يتطلب استقراراً سياسيّاً بالدرجة الأولى، وغنيٌ عن القول أنّ ذلك يبدأ بانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة يوحي بالثقة للداخل والخارج.

الوضع في جنوب لبنان خطير للغاية، ولسكان باقي المحافظات اللبنانيّة، لا بد من لفت النظر إلى أن جبهة حرب حقيقيّة اشتعلت في الجنوب منذ السابع من تشرين الأول الماضي. والخطر الأكبر أنّ هذه الحرب مرشحة للتوسّع نحو اتجاهات مدمّرة نتيجة الجنون الإسرائيلي الذي لا يعرف حدوداً أو ضوابط! وها هم أعضاء مجلس الحرب الاسرائيلي يهددون ويتوعدون لبنان وعاصمته بصورة يوميّة.

تحصين الساحة الداخليّة مطلوب أكثر من أي وقت مضى، والتحصين يبدأ بتفعيل المؤسسات الدستوريّة وتنشيطها، وحتماً ينطلق ذلك من انتخاب الرئيس الجديد القادر على جمع اللبنانيين في لحظات المنعطفات الصعبة، والقادر على جمع كل عوامل القوة المحليّة في لحظات الاحتدام الإقليمي بما يسمو فوق الانقسامات التافهة، والقادر أيضاً على قيادة أوسع حملة دبلوماسيّة مع الدول المؤثرة حول العالم للحفاظ على لبنان من الأخطار القادمة والمحدقة فيه على مختلف المستويات.

يستطيع لبنان أن يستعيد حضوره العربي والدولي من خلال اختيار رئيس موثوق، وأن ينجح، ولو لمرة واحدة في تحويل التحدي الراهن إلى فرصة جديّة وحقيقيّة ينطلق من خلالها نحو حقبة جديدة مغايرة تماماً ونوعياً عن الحقبة الراهنة التي يبقى عنوانها الأساسي الترهل والضياع والارباك وغياب القرار.

يستطيع لبنان أن يحصّن ساحته الداخليّة بالوقوف متحداً ضد إسرائيل التي قلّما تركته وشأنه منذ احتلالها لأرض فلسطين وإقامة كيانها فوق تلك الأرض العربيّة سنة 1948. ويستطيع لبنان أن يتعلم من دروس الماضي وعبره بعيداً عن الحسابات المصلحيّة والفئويّة التي تذهب به نحو الخراب والدمار.

يستطيع لبنان… ويستحق لبنان.