كتبَ عبد الرحمن الكواكبيّ(ت: 1902): «تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعيّ للأديان، على أن الاستبداد السّياسيّ متولد مِن الاستبداد الدّينيّ، والبعض القليل يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التّغلب وأمهما الرَّئاسة»(الكواكبيّ، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). قال الكواكبيّ ذلك في زمن الإمبراطوريات، التي لا تهيمن بلا عقيدة دينية، وقد عاش ورَحل في الزَّمن العثمانيّ(1849-1902).
انتهى التَّلازم بين الاستبداديَن، الدَّينيّ والسّياسيّ، بانتهاء الإمبراطوريات، ولهذا التّلازم جهد الإسلاميون على إحيائها بعنوان «الحاكميّة»، «ولاية الفقيه» بعينها، لكنَّهم تحولوا بالظَّاهر إلى الهتاف الوطني، فاختصر معروف الرُّصافيّ(ت: 1945) التَّحايل ببيته: «أُحبولة الدِّين رَكت مِن تقادمها/فاعتاض عنها الورى أُحبولة الوطنِ».(الدِّيوان 1959، الدِّين والوطن).
كنا نقرأ في المدارس، وما تداولته كتب المعاصرين، مِن مقالة للخليفة الرّاشديّ عُمَر بن الخَطَّاب، قالها قبل دهرٍ طويلٍ: «متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».. سمعناها وقرأناها هكذا، وقبل العثور على مصدرها، قلنا اُختلقت لأجل التّربية والتّعليم، ولم يُكلف المعاصرون أنفسهم البحث عن مصدرها، فصاغوها بلغة أقرب إلى ألسنة العصر الحديث.
لكن المقولة ليست مِن مختلقات المعاصرين، ولم ترو لهدف سوى كتابة التّاريخ، رواها المؤرخ عبد الرَّحمن بن عبد الله بن عبد الحكم(ت: 257هج) كالآتي: «مذ كم تعبّدتم النَّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً»، (ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب)، ثم رواها: الثَّعالبيّ(ت: 429هج)، في «الشّكوى والعتاب»، والمفسر المعتزليّ محمود الزّمخشريّ(ت: 537هج) في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار»، وابن حمدون(ت: 562هج) في «التّذكرة الحمدونيَّة»، وبعدها انتشرت في كتب مَن أتى بعدهم. رويت عن سندها الصَّحابي أنس بن مالك(ت: 93هج).
كان بين زمنيَ الخليفة الرّاشديّ الثّاني وعبد الرّحمن الكواكبي نحو 1300 عام، قالها الأول وهو صاحب أمر، ونفذها قولاً وفعلاً، أمَّا الثّاني فكان مثقفاً داعيّةً ضد الاستعباد، وكذلك تبناها قولاً وفعلاً، وراح ضحيتها.
ستكون مقالة الخليفة سنداً قويّاً لكتاب الكواكبيّ ونقده للاستعباد لو ذكرها، وقد استعان بأمثلة كثيرة مِن تراث الخلفاء والأمراء في الاستعباد، مِن التّاريخ والدّين، كما ذكر الخلفاء الرَّاشدين: «أظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين، التي لم يسمح الزّمان بمثال لها، بين البشر حتَّى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف، إلا بعض شواذ، كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العبّاسيّ ونور الدّين الشّهيد(قصد نور الدّين زنكيّ (الكواكبيّ، طبائع الاستبداد...).
يغلب على الظّن أنه لم يلاحظ مقولة عُمَر بن الخَطَّاب، وإلا لم تفته، وكانت موثقة مِن مؤرخين أقدمين، لكنها لم تنتشر، عندما كتب الكواكبيّ كتابه، وهو القرن التَّاسع عشر الميلاديّ، فالمصادر التي وردت فيها لم تُحقق آنذاك وتُنشر، وإلا لو لاحظها الكواكبيّ لكانت جوهرة كتابه.
قد يقول قائل، ومن أدراك أنّ الخليفة قالها؟! فعادمو التّاريخ أخذوا يتكاثرون ويتكاتفون. جوابنا ليكن ابن الخَطَّاب لم يقلها، لكنّ خذوا قِدمها مِن تاريخ روايتها المتصل بعصرنا، وهو زمن ابن عبد الحكم، وزمن رواتها عن تاريخه «فتوح مصر والمغرب»، كالثّعالبيّ والزّمخشري وابن حمدون، واتركوا مِن رواها قبلهم وبعدهم!
هذا، وقد يثور سؤال آخر، إذا كان عمر قالها فلماذا لم يلغ العبوديّة، التي استمرت حتَّى بداية قرننا العشرين؟! الجواب، كانت العبوديّة سمة اجتماعيّة واقتصادية سائدة، يُنزع إلى رفضها والتّخفيف عنها، لكن لم تحن الظّروف لإلغائها بالكامل، والحِقب الاجتماعيّة لا تلغى بأمر أو رأي، إنما مثل تلك المقولة كانت بداية التّدرج في إلغائها، وفكرة التَّدرج، عبر العتق، جاءت في خطاب عبد الرّحمن الكواكبي، راداً على مَن شكك في مؤتمر زنجبار العالمي بخصوص إلغاء الرِّق(الكواكبي، الأعمال الكاملة).
التعليقات