إنْ أَنسَ، لا أَنسَ رجلاً صادفتُه، حينَ تخرَّج في إحدى الجامعات، بعدما جَازَ الستينَ من عُمُرِهِ بِأَشوَاطٍ، ووافقَ تخرُّجُه السنة التي تخرّج فيها ابنه الأصغر.

لم يكن ممكِناً، أَلَّا أَسأَلَهُ عن سِرِّ تلك العزيمة التي واتته، على تقدُّمه في السن، كي يدخل الجامعة، وهو مُتَأَكِدٌ، أنه لن يَستَفِيد من شهادته الجامعية، في تحصيل وظيفة، أو ترقية مرتبة، أو تحقيق وجاهة!

فأجابني قائلاً: «عِشتُ طُفُولَة سعيدة، رغم الفقر الذي كَابدناهُ، كانت أياماً لم يَعرف لها الرخاء درباً، وجدتُني مُضطراً لمشاركة والدتي عملها المضني الذي تقوم به لسد رمقنا، وتوفير قوت يومنا، بعد رحيل والدي عن الحياة، وأنا طفل رضيع».

ثم ابتسم، وهو يتذكر أَيَامَ الفَاقَة، رُبَما لأنها تَصَرَّمَت ومَضَت، وإن جَسَّدَهَا في كلماته، بقوله: «لم يُتَح لي أن أدخل المدرسة، إلا عندما قاربت العشرين، درستُ سنواتٍ قليلة من المرحلة الابتدائية، ثم شُغِلتُ بشؤون الدُنيا، عن طلب العلم، والتهيتُ بالسوق، وفَتَحَ الله عليَّ، فتزوجتُ، وأَنجبتُ، وأَخذتني دوَّامة الحياة! ثم سَأَلَنِي أحدُهُم، قَبلَ عشرين عاماً، عن مُؤهلي العِلمِي، فَأَطرَقتُ مُحرَجاً، وَعَزَمتُ حِينَهَا أَن أعكِفَ على الدراسة حَتَّى أُنهي الجامعة، إن مَدَّ اللهُ في الأَجَلِ، أَو تُقبَضَ رُوحِي وأَنَا أَطلُبُ العِلْمَ».

بَدَأَ الرجل رحلة التَعَلُّمِ، من أدنى السُلَّمِ التعليمي، بالمَدَارِسِ الليلية، وَلَم يَزَل على دَأَبِهِ، مَع مَا وَاجَهَ مِن مَشَاقٍ، وصِعَابٍ، حَتَّى أَتَمَ الابتدائِيَّة، فالمتوسِطَة، فالثَّانَوِيَّة، ثُمَّ قَرَّرَ أَن يَدرُسَ إِدارة الأَعمالِ بالجامعة، التي لم يكن طَرِيقُها مُعَبَّدة بالوُرُودِ، بَل مَلِيئة بالأَشْوَاكِ، وَكَادَ، مَرَّاتٍ، يَنقَطِعُ عن الدرسِ، لَكِنَّهُ كَافَحَ، وَجَالَدَ، وَصَبَرَ، حَتَّى نَالَ الشهادة الجامعية، دُونَ أَن يُعِيقَهُ تَقَدُمُهُ فِي العُمُرِ.

وقِصَّة الإعلامي السعودي الراحل، بدر كرَيِّم (1935 - 2015)، تَعضدُ ما سبق، فقد التحق كرَيِّم بالإذاعة في عام (1957)، وعَمِلَ مُذيعاً، ولَمَّا يحصل بَعْدُ على الشهادة الابتدائية، ومَعَ الطموح، والإصرار، والمثابرة، أنهى الابتدائية والمتوسطة، بدراسة ليلية، مع استمراره في عمله نهاراً، مُستفيداً من نظامٍ سابقٍ، يُتيح الجمع بين سنتين دراسيتيْن في سنة واحدة، على أن يتجاوز الطالب الامتحان في مناهج السنتين كلها، ثمّ حصل على الشهادة الثانوية في السبعينات الميلادية بالدراسة ليلاً، وهو على رأس عمله مذيعاً نهاراً، وكانت شُهرته حينها بلغت الآفاق، وهو ما أَهلهُ ليُعَيَّنَ مديراً للإذاعة في عام 1980، وانتسب للدراسة في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، فأنهى البكالوريوس، ولم يكتفِ بذلك، فما زالت نفسه تُحدِّثه بالمزيد، فحصل على الماجستير في علم الاجتماع من جامعة الملك عبد العزيز، وَعُيِّن رئيساً لوكالة الأنباء السعودية، أَحَدَ عشرَ عاماً، ثم عُضواً بمجلس الشورى السعودي، وبعد أن أنهى دورة في المجلس، توجه لجامعة الإمام، وحصل منها على الدكتوراه في الإعلام عام 2006 – 2007، بعد حياة مهنية امتدت خمسين عاماً، وما كان ليُحَقِّقَ هذه الإنجازات، لو كَانَ أَذعَنَ لِوَهَجِ النجومية في الإذاعة، والتلفزيون، وبخاصة وقد كانَ المذيعَ المتخصِّص في تغطية نشاطات الملك فيصل بن عبد العزيز (ت 1975)، وجولاته، للإذاعة، والتلفزيون. وما كان ليَحوزَ على ما حَازَ لو أرخى أُذُنَهُ لبعض زملاء الإعلام، الذين نصحوه وقد نَالَ الشُهرَة والذُيُوعَ، بعدم التفكير في الدراسة، حيث سيزَامل صِغاراً في عُمر أولاده، وسَيُعَرِّضُ نفسه لإحراجاتٍ، وهو الشخصية المعروفة!

تَرَاهُ لِفِعلِ المَكرُمَاتِ مُشَمِّرا

إذا الجُودُ والإِقدَامُ لِلنَّاسِ أَقعَدَا

ويَحضُرُنِي قول الإمام الماوردي: «وَرُبَّمَا امْتَنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَاستحيَائِهِ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي صِغَرِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ فِي كِبَرِهِ، فَرَضِي بِالْجَهْلِ أَنْ يَكُونَ مَوْسُوماً بِهِ وَآثَرَهُ عَلَى الْعِلْمِ أَنْ يَصِيرَ مُبْتَدِئاً بِهِ. وَهَذَا مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ وَغُرُورِ الْكَسَلِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا كَانَ فَضِيلَة فَرَغْبَة ذَوِي الْأَسْنَانِ فِيهِ أَوْلَى. وَالِابْتِدَاءُ بِالْفَضِيلَة فَضِيلَة. وَلَأَنْ يَكُونَ شيخاً مُتَعَلِّماً أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ شيخاً جَاهِلاً».

إذا لم يكن مَرُّ السنينِ مُترجِماً

عن الفضلِ في الإنسانِ سميته طِفلا

وما تنفعُ الأيامُ حين تَعُدُهَا

ولَمْ تَستَفِد فِيهِنَّ عِلماً ولا فضلا

كان الخليفة المأمون (ت 218هـ) حاكماً مثقفاً، يُحِبُ العُلمَاءَ والأدباء، ويُدنِيهِم، ويعقد لهم منتدياتٍ، ويجري بينهم نقاشاتٍ، وكان له عَمٌّ قليل حَظٍّ بِعِلمٍ، هو إبراهيم بن المهدي (ت 224هـ)، يُقَرِّبه المأمون لعمومته، فيحضر جلسات العلم، مُكتَفِياً بالاستماع، فهُوَ غاية ما يُحسن.

دخل العَمُّ على المأمون يوماً وبين يديه نِقاشٌ فقهي، فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا عِنْدَكَ فِيمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، شَغَلُونَا فِي الصِّغَرِ وَاشْتَغَلْنَا فِي الْكِبَرِ. قَالَ المأمون: لِمَ لَا نَتَعَلَّمُهُ الْيَوْمَ؟ فقَالَ المهدي، والدَهشَة تَملأُ كِيَانَهُ: أَوْيَحْسُنُ بِمِثْلِي طَلَبُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاَللَّهِ لَأَنْ تَمُوتَ طَالِباً لِلْعِلْمِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعِيشَ قَانِعاً بِالْجَهْلِ.

ليس هناك، أيها الكِرامُ، سِنٌ غير مناسِبة للتَعَلُّمِ، ولا وَقت غير ملائمٍ لِنَهلِ المَعَارِفِ، والاستمتاع بنعيمِ الدهشة، والتَلَذُذّ بِمُتعَة الاكتشاف.

قِيلَ لِأَبِي عَمْرِو بن الْعَلَاءِ، شيخ القرّاء واللغة (ت 154ه): أَيَحْسُنُ بِالشيخ أَنْ يَتَعَلَّمَ؟ قَالَ: «إِنْ حَسُنَ بِالشيخ أَنْ يَعِيشَ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ». فالتعلم كما قيل: من المهد إلى اللحد.

على أنَّ العِلمَ، كما قال ابن عباس: «أكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء أحسَنَه».

ومن الحَسَنِ، يا سادة، أن نتخذ من العادات ما يُعِينُنَا ويُحَرِّضُنا على الازدياد من العلم.

أَبلَغُ ما يُطلَبُ النَجاحُ بِهِ الـ

طَبعُ وَعِندَ التَعَمُّقِ الزَلَلُ

ومَن عَلِمَ قَدرَ الوَقتِ، تَعَوَّدَ استثماره، وأعرض عن إهداره، إذ:

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ

إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَوانِي

وما أحسن، أن يكون لنا، من عادات التعلم: لسانٌ سؤولُ، يبحث عن الإجابات، من أفواه أهل العِلم، وكتابات العارفين، وتقاريرِ الخبراء، فالتقاطُ المعلومة إثر أختها مشبِعٌ، والعلم، يزداد بمرور الزَّمان، وتعاقُب الأعوام، وتراكمُ الأشياء الصغيرة يجعلها كبيرة، وضَمُّ المعلومة إلى أختها، يشبه السِّحر، بل هو السِّحر الحلال!