لا يزال الحديث متواصلا حول مشروع الطاولة الخماسية الذي طرحه المبعوث الأممي عبدالله باتيلي في الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي، كمبادرة لحلحلة الأزمة السياسية المتفاقمة وكخطوة على طريق التوافق من أجل التوصل إلى تحديد موعد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا.

ترتكز مبادرة باتيلي على جمع الخمسة الكبار في صياغة القرار الليبي، وهم رئيس المجلس الرئاسي ورئيس مجلس النواب والقائد العام للجيش ورئيس مجلس الدولة ورئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، والذين لن يجتمعوا معا بأي شكل من الأشكال، ولن يساعدوا على حلحلة الأزمة ولا على تحديد موعد الاستحقاقات الانتخابية، لاسيما أن لكلّ منهم أجندته الخاصة ومرجعيته السياسية وقاعدته الاجتماعية وتحالفاته الإقليمية والدولية.

التفسير الواقعي للمشهد الحالي في ليبيا، هو أن هناك تنافسا على الغنيمة بين مختلف الفرقاء، وأن الممسكين بمقاليد السلطة غير مستعدين للتخلي عنها أو عن الامتيازات التي يتمتعون بها، أطلقت عليهم المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز اسم ديناصورات السياسة، وقالت إن بعض السياسيين متمسكون بالحفاظ على الوضع الراهن الذي يتيح لهم الوصول إلى خزائن الدولة، مشبهة العديد منهم بالديناصورات، وأكدت بوضوح أنهم يرون في أي تغيير عبر تشكيل سلطة تنفيذية مؤقتة أو إجراء انتخابات وطنية نهاية حتمية لامتيازاتهم، وقدرتهم على الوصول إلى خزائن وموارد الدولة، وبالتالي وضع حد لنظام المحسوبية الذي طوروه بمهارة خلال السنوات الماضية.

وقال باتيلي إنهم يراوحون مكانهم، ولم يبدوا التزاما قاطعا بإنهاء حالة الجمود السياسي، وأنهم يعتمدون تكتيكات تأجيل الحل، وهو بذلك يستنتج نفس ما توصل إليه سابقوه من أن الفرقاء الراكبين صهوة السلطة غير مستعدين للنزول منها أو التنازل عنها، طالما هناك مال وسفر وحراسات ومواكب رسمية وعلاقات على أعلى مستوى ووجاهة اجتماعية وحصانة تضمن الإفلات من الملاحقة والعقاب.

نحن الآن أمام خمس شخصيات، إحداها وهو عقيلة صالح ممسك برئاسة مجلس النواب منذ تسع سنوات وستة أشهر، وهو مستعد للبقاء لمدة عشر سنوات أخرى، لاسيما بعد أن حقق اختراقا مهما بتطبيع علاقاته مع الأتراك والقطريين، أما مجلس الدولة فهو يتكون من فلول المؤتمر الوطني العام التي يعود انتخابها إلى يونيو 2012، والتي تم تدويرها بشكل متعمد في اتفاق الصخيرات منذ ثماني سنوات في شكل هيئة استشارية سرعان ما تحولت إلى مؤسسة تشريعية موازية قادرة على رفع “الفيتو” في وجه البرلمان المنتخب والذي من المفترض أنه الجهة التشريعية الوحيدة المعترف بها دوليا.

والعلاقة بين مجلسي النواب والدولة لا يبدو أنها تسير بانسيابية، ولا هي مؤهلة لتكون منطلقا للحل السياسي، وأكبر دليل على ذلك أن مجرد توصل رئيسيهما عقيلة صالح وخالد المشري إلى اتفاق على تشكيل حكومة مصغرة، بدلا من حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، تتولى إدارة شؤون الدولة على كافة أراضيها وتشرف على تنظيم الانتخابات، دفع بعدد من الأطراف المؤثرة داخليا وخارجيا إلى التحرك بقوة في أغسطس الماضي لاستبعاد المشري من رئاسة مجلس الدولة واستبداله بمحمد تكالة الذي أثبت إلى حد الآن أنه مكلف بمهمة وهي إحباط محاولات مجلس النواب الإطاحة بالحكومة التي شكلها الدبيبة ويرأسها منذ مارس 2021، والتي كان من المقرر أن تدير شؤون البلاد لمدة ثمانية أشهر تنتهي بتسليم الحكم إلى السلطة التي كانت ستنتخب في ديسمبر في نفس العام. وبحسب الاتفاق الصادر عن مؤتمر الحوار في اجتماعي تونس وجنيف في نوفمبر وديسمبر 2020، ثم في اجتماع جنيف في فبراير 2021، فإن مدى شرعية حكومة الوحدة كان سينتهي في يونيو 2022، وهو ما لم يتحقق طبعا، كما سبق لحكومة الوفاق برئاسة فائز السراج التي تشكلت لحكم البلاد لأجل أقصاه 18 شهرا أن بقيت تحكم وفق سياسة الأمر الواقع لمدة خمس سنوات.

وبالنسبة إلى المجلس الرئاسي، وبحسب الصلاحيات المسندة إليه، فإنه أعجز من أن يكون له أي أثر حقيقي على المشهد العام من خارج دائرة البروتوكول، وتزداد نسبة عجزه بالصراعات داخله المعبرة عن التناقضات بين رئيسه وعضويه، وكذلك بخضوعه في جانب كبير من قراراته ومقترحاته لسلطات أخرى تمتلك آليات السيطرة على مراكز القرار في طرابلس، فيما يبدو رئيسه محمد المنفي كمن يسير فوق حبل وبين يديه عصا يحاول أن يحافظ بها على توازنه.

هناك كذلك قيادة الجيش الممثلة في الجنرال خليفة حفتر الذي نجح إلى حد الآن على الأقل في فرض طبيعة النظام السياسي الذي يريد تكريسه للحكم، وهو يمتلك السلطة المطلقة في نسبة 70 في المئة من مساحة البلاد، وهو أقرب ما يكون إلى رئيس المجلس العسكري الأعلى الحاكم في مناطق نفوذه الممتدة شرقا ووسطا وجنوبا، ولديه إمكانيات واسعة تسمح له بتنفيذ رؤيته السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والرياضية، وبترتيب علاقاته الإقليمية والدولية على المصالح التي يتبناها ويدافع عنها.

وسيكون من العماء السياسي والاستشرافي، الاعتقاد بأن الجنرال يمارس سلطته وينفذ رؤيته بالشكل الذي نراه منذ سنوات ليسلم السلطة إلى رئيس للدولة في طرابلس إن لم يكن هو نفسه ذلك الرئيس، أو أنه سيتخلى وهو على قيد الحياة عن القيادة العامة للجيش لأي شخص آخر مهما كانت مكانته أو جدارته بذلك، ولعل اعتماده على أبنائه في عدد من المسؤوليات الكبرى والمراكز الحساسة خير دليل على أنه يشكّل من حوله دائرة للحكم غير قابلة للاختراق بأي شكل من الأشكال.

إن أي حديث عن جمع الأطراف الخمسة حول مائدة واحدة، هو مجرد هراء، وحديث باتيلي عن ضرورة التحلي بالنوايا الحسنة لا يستقيم مع إصرار الفرقاء على التمسك بامتيازاتهم التي أصبحت تشكل هوياتهم السياسية والاجتماعية، وأن يعول المجتمع الدولي على حكمة الدبيبة أو حفتر أو المنفي أو عقيلة صالح أو تكالة، فذلك يعني أن المجتمع الدولي جاهل بما يدور في الساحة الليبية، وهو يتعامل مع السطح فقط كما حدث في العام 2011 بما يجعله بعيدا عن العمق وما يعتمل فيه من تناقضات غالبا ما تتحول إلى توافقات سرية على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه بما يخدم مصالح كل المتحركين على جغرافيا القرار الليبي.

لا يمكن بأي حال من الأحوال التعويل على إمكانية التوصل إلى حل بجمع الخمسة الكبار، وإذا أراد المجتمع الدولي أن يتوصل إلى حل فما عليه إلا أن يقتنع بأن القوى الأساسية في ليبيا هي قيادة الجيش في الرجمة بنغازي، وسلطة الميليشيات المتحركة تحت شعارات فبراير بالمنطقة الغربية وخاصة في طرابلس ومصراتة، ولوبيات المال والأعمال والتوازنات الإقليمية وصفقات النفط والغاز التي بات يمثلها المهندس عبدالحميد الدبيبة، وأتباع النظام السابق بجميع تشكلاتهم وتمركزاتهم في الداخل والخارج وفي السجن والسلطة، وكذلك ممثلو الأقليات وناشطو المجتمع المدني، مع التزام دولي بالاتجاه مباشرة نحو جمع الليبيين تحت غطاء دستوري قادر على احتواء الخلافات الفكرية والعقائدية وتجاوز الصراعات الحزبية والسياسية.