كأنَّما في مسرحية ساخرة، تجمّعت لهذه التجربة كل أسباب المقالب. وجدت نفسي لبضعة أيام بلا كتب، وبلا صحف، خصوصاً بلا الماكينة السحرية المعروفة بـ«الآيباد» التي هي كل حظي من معجزات التكنولوجيا.

وصلتُ إلى حيث أنا، ومعي نسخة من مجلة «نيويوركر». وواحدة من «نيويورك ريفيو»، وكتاب «رحلة في إنجلترا»، وكتاب أسعد داغر الرائع «حضارة العرب». و«الآيباد». قرأت يوم الوصول شيئاً من كل شيء. وفي اليوم التالي فرغ «الآيباد» وتوقف، ولم نعثر في الفندق على «شاحن» يليق به.

عدت إلى زوادتي الورقية وقرأت فيها مواضيع لا تهمني في العادة. وفي اليوم التالي بدأت في قراءة «رسائل إلى المحرر». وفي الذي تلاه انتقلت إلى «الإعلانات المبوبة»، في انتظار العثور على شاحن. ثم رحتُ أعيد كل ما قرأت وكأنني أحفظ فرضاً مدرسياً.

منذ ضربت جائحة وجائرة «كورونا»، لم تعد الصحف والمجلات مسموحة على الطائرات، أو في الفنادق. وحاولت أن أقرأ أي مطبوعة متوافرة في الفندق، وبعدما قام الموظفون المشفقون بجولة على كل غرفة، عثروا تحت أحد الأسرّة على مجلة طعام فاخرة ولا تزال ملفوفة بالسيلوفان. شكرت الشاب الذي حملها إليّ، وطلبت منه أن يبقيها في غلافها، لأنني أفضل، في هذه الحال، العودة إلى الإعلانات المبوَّبة.

لم أستطع إلا أن أتذكر كبار العرب الذين رموا في السجون، وكل مرادهم من الدنيا قلم وورقة. أكرم الحوراني، والرئيس هاشم الآتاسي، ومصطفى أمين، وإحسان عبد القدوس، ومحمد حسنين هيكل، ومحمد البعلبكي، وغسان تويني، وإلخ، إلخ، ما شئت...

كتّاب وفنّانون وروائيون خافت الأنظمة أن يسقطوها في مقال أو قصة قصيرة. قيل لعباس محمود العقاد مرة، ماذا تخشى في الموت، وأنت ما خلفك أحد؟ لا زوجة ولا أبناء ولا من تفتقد.

قال يعزُّ عليّ أن أترك الكتاب هنا وأذهب. قد يمل الإنسان أهله وأبناءه، لكن هل سمعت مرة أن إنساناً ضجر من القراءة والمعرفة والعلم؟ عاشوا حياتهم في المناهل والينابيع. وقد نبهني الراحل العزيز يوسف الشيراوي إلى أن الناس تعتقد أن النهل هو الشرب الكثير، بينما هو الشرب مرة واحدة!

وماذا تريدنا أن نفعل. لكل شيء مائة اسم، وأحياناً أكثر. لذا يضيع العاديون أمثالنا ويفرح في توبيخنا. وقد يظلون يفرحون إلى أن يأتي يوم يكتشف أحفادنا أن المعنى الخاطئ للنهل أفضل من الصواب.