تتكاثر الدعوات السياسيّة المطالبة بإسقاط إتفاق الطائف، أو أقله بالالتفاف عليه بهدف استبداله بصيغ سياسيّة أو ميثاقيّة أخرى توفر، من وجهة نظر مطلقيها، خيارات انقاذيّة للخروج من المآزق الراهنة المتعددة الأوجه التي تعيشها البلاد بشكل غير مسبوق. المشكلة الحقيقيّة مزدوجة، أولها أنّ اتفاق الطائف نفسه لم يُطبّق كاملاً، وثانيها أنّ الخيارات المطروحة لا تعدو كونها مقترحات نظريّة لا تتلاءم مع الواقع اللبناني بتعقيداته وتشابكاته العديدة.

ليس اتفاق الطائف مقدساً، فالنصوص الدينيّة المقدسة كافية ووافية وتغطي مسارات الحياة المختلفة، وبالتالي المطالبة بتعديل الاتفاق أو الاقلاع عن تطبيقه واقتراح صيغ أخرى تبدو مشروعة تماماً، أقله هذا ما تفترضه الأنظمة «الديمقراطيّة» الحديثة التي من أهم وظائفها السياسيّة إتاحة مساحات التعبير وحرية الرأي حتى ولو كانت تلك الآراء بعيدة عن الواقع ومنفصلة عنه.

إلا أنّ ثمّة مسألة في غاية الأهميّة يتغاضى عنها أولئك الذين يقدّمون طروحات مناقضة للصيغة الراهنة ألا وهي انعدام القدرة عند اللبنانيين للتفاهم على أي أمر تقريباً. اللبنانيون مختلفون على سياستهم الخارجيّة: كيف ينظمون علاقاتهم مع الأطراف الإقليميّة الفاعلة والمؤثرة في الشرق الأوسط؟ كيف يعيدون ترتيب علاقاتهم مع الدول العربيّة ويؤكدون هويتهم العربيّة؟ كيف يستعيدون حضور لبنان على الخارطة الدوليّة وقد فقده بشكل كبير خلال الأعوام الماضية للكثير من الاعتبارات؟

وهم مختلفون أيضاً على سياستهم الدفاعيّة: كيف يواجهون إسرائيل؟ وكيف يدافعون عن لبنان؟ كيف السبيل للاستفادة من قدرات المقاومة من دون أن تحتكر لنفسها قرار الحرب والسلم؟ كيف السبيل لتعزيز دور المؤسسة العسكريّة والمؤسسات الأمنيّة الأخرى التي يفترض أن تتكامل في عملها وتواصله مهما كانت الصعاب؟ فكيف إذا كانت البلاد تمر في ضائقة اقتصاديّة غير مسبوقة؟

واللبنانيون مختلفون أيضاً على السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. كيف يخرجون من الأزمة الراهنة المستفحلة على كل المستويات؟ كيف يستعيدون ودائعهم المصرفيّة؟ كيف يجعلون الاقتصاد اللبناني منتجاً وليس ريعياً؟ كيف تحافظ الدولة على وظيفتها الاجتماعيّة وتحافظ في الوقت ذاته على حرية المبادرة الفرديّة؟

إنها تساؤلات مشروعة ومحقة وترتبط إرتباطاً عضوياً بالواقع الراهن، ولا يمكن الخروج من المأزق الحالي من دون توفير إجابات جديّة وعميقة لها يلتف حولها أكبر شريحة ممكنة من اللبنانيين طالما أنّ ثمة استحالة حقيقيّة في تأمين الاجماع التام، وإلا تصبح صورة المشهد اللبناني تماثل صورة المجتمعات التي ترزح تحت نير الديكتاتوريّة وتعاني منها.

والسؤال المنطقي يتصل بمدى القدرة على توفير الإجابات المطلوبة في ظل النظام السياسي الحالي أو في ظل نظام سياسي جديد؟ وهل القدرة لدى اللبنانيين للتفاهم على نظام سياسي بديل هي قدرة متوفرة على ضوء الانقسامات بينهم حيال القضايا الحيويّة والاستراتيجيّة؟

إن غياب المقومات الأساسيّة المطلوبة للانتقال من النظام الحالي إلى نظام جديد أكثر عدلاً وتمثيلاً تجعل الخطوة المقترحة بمثابة القفز في المجهول وتعريض البلاد إلى مخاطر جمّة لن يكون من السهل تجاوزها، لا بل هي قد تدفع البلاد إلى شرخ إنقسامي كبير لن يكون من المتاح العودة عنه بيسر وانسيابيّة.

كان بإمكان القوى السياسيّة اللبنانيّة أن تقدّم للشعب اللبناني تجربة رائدة من خلال «لبننة» الاستحقاق الرئاسي، ولو بحدوده الدنيا، و»تجترح» معجزة ما تتيح استعادة هذا الموقع لدوره الوطني والعربي، عبر اختيار شخصيّة تمتلك الكفاءة والخبرة للتعامل مع الوضع اللبناني الشائك بعيداً عن الحسابات المصلحيّة الخاصة.

المهم أنّ لبنان يستحق، ويستحق أفضل مما هو فيه. المهم الابتعاد عن الطروحات المتهورة التي تبدو كأنها خارج زمانها ومكانها.