تطرح التطوّرات الدراماتيكية التي يشهدها لبنان على هامش حرب غزّة أسئلة عدّة. في مقدّم الأسئلة: هل يضمن الانخراط المدروس للحزب في حرب غزّة، عبر فتح جبهة جنوب لبنان، مكاناً له إلى طاولة مفاوضات ما بعد حرب غزّة؟ هل يفاوض الحزب باسم لبنان؟ ما مصير القرار 1701 الذي يرفض الحزب تنفيذه والتزام بنوده في ضوء رفضه الخروج من منطقة عمليات القوة الدولية؟ ما الذي سيكون عليه الشرق الأوسط الذي تعيد حرب غزّة تشكيله، علماً أنّ ذلك يشمل إسرائيل نفسها التي كشفت حرب غزّة نقاط الضعف فيها؟

قبل كلّ شيء، لا وجود لـ"فرصة تاريخية" ولا من يحزنون... بالنسبة إلى لبنان. الفرصة الوحيدة تكون في فصل لبنان نفسه عن حرب غزّة، وهي حرب غامضة النتائج في ظلّ ما خلقته من تعقيدات تتجاوز فلسطين وتشمل المنطقة كلّها. من يربط مصير لبنان بحرب غزّة لا يريد الخير للبلد ولا يريد استعادة لبنان موقعه على خريطة المنطقة ومنارة من مناراتها بدل أن يكون بلداً مفلساً يبحث شبابه، بأيّ ثمن، عن مكان خارجه يذهبون إليه.

الفرصة التاريخية
تكون "الفرصة التاريخيّة" التي تحدّث عنها الأمين العام للحزب حسن نصرالله في خطابه الأخير في استيعاب أهمّية ما يدور في المنطقة. تغيّر الشرق الأوسط كلّياً. سيكون هناك شرق أوسط مختلف في مرحلة ما بعد حرب غزّة. بشكل أدقّ، هناك منطقة ما قبل 7 تشرين الأوّل 2023 ومنطقة ما بعد ذلك اليوم. إنّها منطقة ما قبل "طوفان الأقصى" ومنطقة ما بعد "طوفان الأقصى"، وهو هجوم شنّته "حماس" زعزع الكيان الإسرائيلي الذي بات عليه إثبات أنّ لديه مستقبلاً في المنطقة.

في معرض تأكيده أنّ لبنان سيكون قادراً على استعادة ما بقي لديه من أراضٍ تحتلّها إسرائيل لكن "بعد انتهاء حرب غزّة" أو شرط توقّف تلك الحرب، أشار الأمين العام للحزب إلى أهمّية فتح جبهة جنوب لبنان. ركّزت كلّ خطاباته الأخيرة على تبرير حرب لا علاقة للبنان بها من قريب أو بعيد.

لا يخدم فتح جبهة جنوب لبنان قطاع غزّة وسكّانه. عدد هؤلاء مليونان وثلاثمئة ألف مواطن بات معظمهم من دون بيوت. أكثر من ذلك، ليس معروفاً بعد مدى تضرّر غزّة في ضوء ما ألقته إسرائيل من قنابل من النوع الذي يترك آثاره على البيئة. هل يبقى قطاع غزّة مكاناً صالحاً للحياة عندما سيتوقّف القتال ويُسمح للمواطنين بالعودة إلى الأحياء التي كانوا يقيمون فيها... هذا إذا سُمح لهم بذلك؟
مثل هذه الحسابات التي خرج بها الأمين العامّ للحزب ليست في محلّها. يعود ذلك إلى أنّ فتح جبهة جنوب لبنان لا يعني أنّ الحزب ومن خلفه إيران صارا على طاولة المفاوضات التي سيُبحث فيها مصير الشرق الأوسط، بما في ذلك أمن البحر الأحمر، مع سدل الستار على حرب غزّة.

تغييرات ما بعد غزّة
ستطرأ تغييرات كبيرة على المنطقة بعد حرب غزّة. ستتأثّر إسرائيل من دون شكّ بهذه التغييرات. لن يعود مكان لا لبنيامين نتانياهو رئيس الحكومة إبّان حصول "طوفان الأقصى" ولا لحلفائه الذين جعلوا الاستيطان يحلّ مكان الأمن. سيُحاسب "بيبي" على كلّ ما ارتكبه، خصوصاً على تقديمه مصلحته الشخصيّة ومستقبله السياسي على مصلحة إسرائيل. لن يكون "بيبي" وحده الذي سيُحاسَب، بل سيحاسَب معه آخرون اعتقدوا أن لا وجود لشعب اسمه الشعب الفلسطيني...
الأكيد أيضاً أنّه سيكون صعباً على "حماس" إيجاد مكان لها على طاولة المفاوضات المفترضة، كذلك السلطة الوطنيّة برئاسة محمود عبّاس (أبو مازن)، وهي سلطة كشفت الأحداث درجة ترهّلها وهامشيّتها على كلّ صعيد، خصوصاً منذ تحكّمت "حماس" بقطاع غزّة منذ منتصف عام 2007.

لا بدّ من العودة إلى لبنان ودرجة انكشافه نتيجة حرب غزّة. تبيّن أنّ لبنان تحت السيطرة الكاملة للحزب الذي يمتلك قرار الحرب والسلم كما يمتلك قرار انتخاب رئيس للجمهورية أو عدم انتخاب رئيس للبلد. الأهمّ من ذلك كلّه، يظهر بكلّ وضوح أنّ لبنان لا يستطيع احترام القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن في آب 2006. بعد سيطرة الحزب على منطقة عمليات القوة الدولية "المعزّزة" في الجنوب، بات مشروعاً التساؤل: ألم تتجاوز الأحداث القرار 1701؟
يبقى أخطر ما في الأمر ما لا يجرؤ السياسيون اللبنانيون على طرحه من نوع ما الفائدة من الحديث عن "فرصة تاريخيّة" أمام لبنان ما دام البلد من دون رئيس للجمهوريّة ومن دون كهرباء ومن دون نظام مصرفي ومن دون بنية تحتيّة؟ ماذا عن وضع بيروت ومطارها والمرفأ الذي جرى تفجيره في آب 2020؟ أين العرب الذين كانوا يقصدون لبنان على مدار فصول السنة؟ أين الطلّاب العرب والأجانب في الجامعات اللبنانيّة، بل أين صارت هذه الجامعات، أكانت وطنيّة أو أجنبيّة؟

لا وجود لـ"فرصة تاريخيّة" بمقدار ما هناك فرصة لتحقيق انتصار آخر على لبنان على غرار الانتصار الذي حقّقته إيران، عبر الحزب، في حرب صيف عام 2006 بعد سنة ونصف سنة من التخلّص من رفيق الحريري بالطريقة التي تمّ بها التخلّص منه. على أيّ لبنان سينتصر الحزب هذه المرّة؟ وهل انتصاره على لبنان سيسمح له بالتفاوض باسم البلد نيابة عن كلّ مكوّناته من شيعة ودروز وسنّة ومسيحيين؟