في عام 1867 شاركت مصر في معرض إكسبو باريس، كان ذلك في عهد الخديوي إسماعيل، وكان الجناح المصري مميزاً للغاية، وعلى هامش المعرض انعقدت قمة ثنائية مصرية - فرنسية.. بين الخديوي إسماعيل والإمبراطور نابليون الثالث.
بعد ستّ سنوات شاركت مصر في إكسبو فيينا عام 1873، وكان عنوانه «الثقافة والتعليم». ثم شاركت في إكسبو فلادلفيا 1876 وكان بعنوان «الصناعة والفنون الجميلة ومنتجات الأرض والمناجم».. وفي هذا الحدث العالمي الكبير أقامت مصر معرضاً للصور الفوتوغرافية عن آثار مصر القديمة.
روت الدكتورة جيهان زكي أستاذة علم المصريات، في كتابها «الدبلوماسية الثقافية» الذي صدر عن دار المعارف 2023.. هذه المشاركات المصرية باعتبارها رؤية مبكرة للدبلوماسية الثقافية. وحسب الكتاب فإنّ مشاركة مصر في إكسبو باريس 1867، كان سبباً رئيسياً في النقلة الفنية والمعمارية العالمية التي شهدتها مدينة القاهرة فيما بعد، فقد طلب الخديوي إسماعيل من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المهندس المعماري العالمي «هاوسمان» الذي خطّط مدينة باريس، ورسم ميادينها الرائعة، وحدائقها الخلابّة.. بإعادة رسم وتخطيط القاهرة، وطلب الخديوي من «هاوسمان» الاستعانة بأفضل المهندسين والفنانين في العالم.
أصبحت القاهرة الخديوية أجمل من باريس، وأطلق الغرب على العاصمة المصرية اسم «باريس الشرق».. وكان ذلك ثمرة تعاون مصري فرنسي جاء في إطار الدبلوماسية الثقافية المصرية كما ارتآها الخديوي إسماعيل.
يمثل الخديوي إسماعيل عصر الحداثة المصري الثاني، وكان محمد على باشا هو من أسس عصر الحداثة المصري الأول. وفي عهد الاثنين كانت الدبلوماسية الثقافية من أسس السياسة الخارجية المصرية، فقد كانت البعثات العلمية، والترجمات، والمشاركة في المعارض الدولية، والتبادل الثقافي عبْر دعوة كبار المفكرين وإيفاد مفكرين آخرين.. أمراً معتاداً في تلك الحقبة الناهضة والزاهرة.
أرادت مصر تشكيل صورة ذهنية عنها وعن العالم العربي والإسلامي تختلف عن المستوى الذي كان سائداً، وهو المستوى الذي تجاوزه الغرب كثيراً، بل وتجاوزه عصر بأكمله.
كانت المسافة هائلة بين الشرق والغرب لصالح الغرب، وهو عكس ما كان قبل قليل حين كانت المسافة هائلة لصالح الشرق. وقد أرادت القاهرة أن تكون أكثر واقعية وأن تدرك أنه لا سبيل لطىّ المسافة إلا عبر اتباع منهج الغرب في تحديث الشرق، مع الحفاظ على الدين والقيم والأخلاق.
جاءت مشاركة مصر في إكسبو باريس 1867 لتؤكد على رغبة مصر في العولمة الجديدة، وأن تلحق بذلك السباق الدولي في مجالات عديدة لم تكن حاضرة في الشرق بقدر حضورها في الغرب.
كان علماء الغرب يذهلون العالم الجديد بكل جديد، ففي كل «إكسبو» اختراعات لا مثيل لها، وصور ونماذج كانت صادمة للبشرية، حتى أن إمبراطور البرازيل حين رأى الهاتف الذي عرضه غراهام بيل، وسمع انتقال الصوت بين البشر من مسافات بعيدة عبر الآلة الجديدة، راح يصرخ ويقول: يا إلهي.. إنّه يتحدث!
ما رآه الخديوي إسماعيل قبل أكثر من قرن ونصف القرن لا يزال قائماً إلى اليوم، فالدبلوماسية الثقافية التي تُحسن تقديم «الأنا» لدى «الآخر»، وتواكب الحركة العلمية للعالم، وتستعين بالأكثر تقدماً للمساعدة في رحلة الحداثة، ثم تنطلق من المساعدة إلى المشاركة.. ومن الاستهلاك إلى الإنتاج.. لا تزال هى خريطة الطريق اليوم، كما كانت بالأمس. العِلم هو الحل.