التحديق من نافذة الطائرة باتجاه الأرض يُعلمنا النسبية، نسبية الأحجام والأشياء. البيت الضخم يبدو من علوٍّ صغيراً للغاية، أشبه بنقطة بياض، والسيارة جسم غريب في غاية الصغر يتحرك. من علوٍّ، كل الأشياء تبدو صغيرة مقارنة بما هو أكبر منها حجماً. مجرد تفاصيل صغيرة في مشهد واسع غني بالأشياء والظواهر.
بين البحر والسماء صلة قربى، زرقة اللون وغموض الأفق والاتساع اللامتناهي، حيث لا حواجز تعيق الانطلاق. اعتدنا أن نرى السماء ونحن في البحر أو بجواره، حيث عناق الزرقاوين في اللامتناهي، لكن حين تحلق الطائرات فوق جزر أو بلدان تقع على البحر، فنراه من علو، من نافذة طائرة تتأهب للهبوط، ينتابنا شعور آخر ونحن نرى اليابسة ترسم لنفسها خطاً بمحاذاة البحر، هو نفسه ذلك الذي ندعوه بالشاطئ، عناق آخر بين عالمين لا يفصل بينهما سوى خيط رفيع. كلاهما يضجّ بالحياة والغموض، حياة صاخبة على الأرض، وحياة غير مرئية لا تقل صخباً في أعماق البحر.
هبوط الطائرة على الأرض يُذكرنا بأن التحليق في الطيران كما هو في الحياة، ليس سوى برهة بقياسات الزمن المديد، مهما طال عدد ساعات السفر. ها نحن من جديد على اليابسة، ولكن اليابسة هي الأخرى عوالم، ها نحن الآن على يابسة أخرى، في أرض جديدة، تدعونا لولوج عالمها. جلّ ما نستطيع الإحساس به هو الشغف الذي ينتابنا لحظتها، بمعرفة هذا العالم الذي جئناه.
الناس يقيمون على الأرض، حتى وإن سافروا، أحياناً، إما بالجو أو البحر، فذلك مجرد عبور مؤقت بين مكانين على اليابسة. لا أحد يعيش العمر كله فوق البحر، ولا أحد يظلّ محلقاً في السماء دونما نهاية. يمكن أن نستدرك فنقول: نحن لا نعلم ما الذي سيحمله المستقبل لأجياله القادمة من مفاجآت حول مكان العيش، ولكننا نتحدث عما عرفته البشرية من ماضٍ وما تعيشه اليوم من حاضر.
جميل أن نستعيد المقطع الجميل أيضاً من أغنية «سفر» للفنانة وردة الجزائرية من ألحان العبقري بليغ حمدي، الذي قال مرة إن كلمات هذه الأغنية تلخص حياته: «لا القلب يوم ارتاح ولا بطّل سفر. قلبي كده. سفر. سفر. الدنيا سفر وفراق وسفر.. والقلب ياناس مشتاق للسفر». خطر على بالي هذا المقطع، وأنا أقرأ، قبل شهور، خبراً عن عائلة أمريكية، زوج وزوجة، قررا كسر القاعدة، والكف عن العيش فوق اليابسة، واختارا الإقامة على متن سفينة سياحية؛ لأن إيجار المعيشة عليها أرخص من مصاريف المنزل، فتركا وظيفتيهما عام 2021، وحزما أمتعتهما، وصعدا على متن السفينة التي تجوب بهما العالم، دونما نهاية.
التعليقات