بعد 1445 عاماً من الهداية، يعود القوم مهرولين إلى الجاهلية، بضلال يخلطون بين الحق والباطل، وبعدما تبين الحق وسطع جماله على قبح الباطل، يدنو الإنسان بذاته إلى هذا المستوى المتجلي في تاريخٍ من الألم والمعاناة، عاشته المرأة بشكل عام، والمرأة الموريتانية بشكل خاص، عاشته وعانت منه في ذاتها وذريتها وبيئتها ومجتمعها، والمعاناة أشد وأعمق مما يخطه القلمُ في دولةٍ تحمل أعلى نسبة من حفظة القرآن والشعراء مقارنة بغيرها من الدول، وللأسف لم يكن نتاج ذلك بادياً في إصلاح السلوكية الفردية والجماعية إلا شيئاً يسيراً، فها هي العبودية وتبعاتها، والعنصرية الطبقية والقبلية والفئوية تنهش في المجتمع وتُهلكه.
كرم الإسلام الإنسان المرأة والرجل، ثم وصى بالوالدين الأم قبل الرجل، وثبت حقوق المرأة وقضى على وأد البنات والعبودية والرق، واليوم في القرن الحادي والعشرين، وبالخروج عن الإسلام وقيمه وآدابه وسماحة شريعته وتعاليمه، ينتشر الظلم وتتردى المجتمعات البشرية، وتعود المجتمعات بفكرها الذكوري والفئوي الرجعي إلى قهر المرأة واستعبادها واضطهادها من جديد على نحو يُنير وجه الجاهلية القبيح الذي لم يصادفه نور التغير والتطور للأفضل بما يخدم الإنسانية، وهذا يُثبت أنَّ التقوى دليل الإيمان.
إقرأ أيضاً: رهائن لدى الولي الفقيه
وصل تأثر وانسجام الطغاة والجلادين والظالمين مع الجاهلية وقبحها إلى قدر أنساهم أنهم بأفعالهم وسلوكياتهم هذه ينالون من عقيدتهم وأنفسهم، وينكلون بالإنسانية التي ينتمون إليها، وينتجون أبناء لا يصلحون لمجتمعاتهم ولا لبناء أي دولة يُنتظر أن يكون لها مستقبلٍ مقبول، فالأم المستعبدة والمضطهدة لا يُنتج انكسارها أبناء يصلحون للحياة والوجود، ولا يقتصر اضطهاد واستعباد المرأة على موريتانيا وحدها، فأغلب دول أفريقيا ودول كأفغانستان وإيران والمشرق العربي كالعراق واليمن وسوريا ولبنان وغيرها تعاني فيها المرأة صنوف العذاب من الجهل والفقر والاضطهاد والاستعباد والعنصرية والقتل والأحكام التعسفية وقسوة السجون نتيجة للاستبداد والتعسف والممارسات الممنهجة ضد المرأة واستخدام الدين في بعض الأنظمة كنظام الملالي في إيران كوسيلة للقمع والخداع والقتل والإبادة والتطاول على الغير.
إقرأ أيضاً: انتقد حماس أو إيران.. فتصبح من "الصهاينة العرب"!
على مر التاريخ، عانت المرأة الموريتانية مرارة العبودية والجهل والفقر والعنصرية والطبقية والاضطهاد وزواج الأطفال من الإناث والذكور واستعباد الإماء وامتلاك أبنائهن وبناتهن كعبيد وجواري، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية على نحو يوحي بوجود مجتمع خارج الحياة ومهدد بالمهالك، وبالرغم من التطور العام على مدى العقود المنصرمة منذ ستينيات القرن الماضي، ووصول المرأة الموريتانية إلى قبة البرلمان وإلى مناصب وزارية وإدارية مرموقة، ومن النساء مناضلات وناشطات مدنية وحقوقية إلا أن العبودية ما زالت باقية في بعض الأوساط، وما زالت آثار وتبعات العبودية باقية في عموم المجتمع، وما زالت غالبية النساء تُعامل كسلعة لا قيمة لها، قابلة للبيع والشراء، أو الإهمال وسوء الاستغلال، ولا يزال الإرث الاجتماعي المتعلق بالمرأة الموريتانية يلاحقها ويلاحق أبناءها ويرسم ملامح حاضرهم ومستقبلهم.
دور المرأة الموريتانية في العملية السياسية شكلي، وفي الصورة امرأة في نواكشوط تدلي بصوتها في الانتخابات
وبالرغم من التطور السياسي في موريتانيا، إلا أن نضال المرأة الموريتانية لا يزال محدوداً وقاصراً دون المستوى المطلوب للنهوض بالمجتمع، ولا يزال وجود ودور المرأة في العملية السياسية وفي دوائر الدولة وجوداً شكلياً في غالبه، وقد تكون الحقبة من السبعينيات إلى تسعينيات القرن الماضي أفضل حالاً من الآن، وأما سياسة الأمر الواقع الغالبة اليوم فهي قائمة على فكر النوع والفئة والطبقة، وعلى هذا الحال لا يمكن للمجتمع أن يتطور، ولا يمكن للمرأة أن تأخذ دورها ومكانتها الحقيقيين في المجتمع دون حراكٍ فكري وثقافي تقوم به النخبة، ويصل إلى حيز التشريع والتطبيق والمتابعة والمساءلة، سواء أكان ذلك من خلال مؤسسات ثقافية حكومية، أو من خلال مؤسسات غير حكومية مستقلة تدعمها الدولة. وهنا المقصود بالمثقف المتنور بالعلم والوعي، والقيم المتحرر من القيود والآفات الاجتماعية التي أشرنا إليها، وهي عامل تجميد لنمو المجتمع وتدمير له؛ إذ لا يمكن إهمال المرأة وهي نصف المجتمع، ولا يمكن إهمال آفات الموروث الاجتماعي المدمر وقد شمل أكثر من نصف المجتمع، فيما لا يزال النصف الآخر متضرراً ومتأثراً أيضاً، وهنا لا نطرح صورة سوداوية عن الواقع طالما الأمل موجوداً، وما زلنا نناضل بثبات، ونُدرك في الوقت ذاته أنَّ الوضع دون المقبول، وبحاجة لمسيرة إصلاحٍ جادةٍ وصادقة، تبدأ بالاعتراف بواقع الحال وتشخيصه وتنتهي بالعلاج.
واقع المرأة في موريتانيا قياساً بالمنطقة والعالم
بداية لا أُسلِم بأن تنامي دور المرأة وتطورها وتطور مراحل نضالها مُرتبطٌ بما تحتله المرأة من مناصب حكومية، وإنما بالواقع الذي تعيشه المرأة؛ فما جدوى تلك المناصب والمراكز التي تحتلها ما لم تظهر آثار ذلك على الفرد والأسرة والمجتمع؟ ومن هذا المنطلق أُسلِم بالتفاوت بين واقع المرأة في هذه الدولة أو تلك عند القياس والمقارنة.
نساء في مدينة صافي المغربية
المرأة في المملكة المغربية: يُعد واقع حال المرأة المغربية في المملكة المغربية ونظامها الدستوري على صعيد الحرية والبنية الاجتماعية والمساهمة في بناء الدولة والمجتمع أفضل بكثير من واقع المرأة في موريتانيا... نعم في موريتانيا هناك نسبة لا بأس بها من النساء في البرلمان وفي مناصب حكومية مرموقة، إلا أنَّ ذلك لم يسهم في تنقية وتطوير المجتمع.
المرأة في الجزائر: تلعب المرأة الجزائرية دوراً سياسياً وتحظى بمكانة اجتماعية مقبولة، وفي حالة تطور مستمر ونمو واضح يساير طموح المرأة الجزائرية التي لا تزال تسعى لدور ومكانة أفضل، وهو في كل الأحوال أفضل من واقع المرأة الموريتانية على كافة الأصعدة.
المرأة في تونس: قد تكون المرأة في تونس، بالرغم من الكثير المعوقات، هي الأفضل حالاً في دول المغرب العربي من ناحية قوتها ومكانتها وتأثيرها.
المرأة في ليبيا: قد تكون المرأة الليبية اليوم من أكثر النساء سوءاً بالأوضاع المعاشية والواقع اليومي المُعاش بدول المغرب العربي، لكنها قوية اجتماعياً وذات مكانة قابلة للتنامي سريعاً مع تصحيح مسار البلاد سياسياً واقتصادياً، وبالرغم من أنَّ حجم الدور السياسي النسوي في موريتانيا قد يكون أعلى مما هو عليه في ليبيا، إلا أنَّ مكانة المرأة في ليبيا أفضل حالاً من المرأة الموريتانية.
المرأة في العراق وسوريا: بالرغم من المكانة المرموقة السابقة للمرأة في البلدين على كافة الأصعدة، إلا أن واقع الحال اليوم يمثل صورة مأساوية بسبب تدخل فاشية نظام ولاية الفقيه الحاكم في إيران والمعادي للنساء في كلا البلدين، وفرض واقع مريرٍ على النساء فيهما، وبات الفقر والخوف والتشرد وما يتبع صورة من صور العبودية المعاصرة في البلدين، وهو قاسمٌ مُشترك بين المرأة في البلدين وموريتانيا.
المرأة في أفغانستان: بالرغم من أنَّ المرأة في أفغانستان تعيش اليوم حالة من الاضطهاد والظلم والظلام والتغييب والحرمان، إلا أن حالها قابلٌ للتغير نحو الأفضل، مباشرة بمجرد تغيير الأوضاع السياسية، إذ لا تعاني رواسب اجتماعية كتلك التي تعاني منها المرأة في موريتانيا وأفريقيا أيضاً.
للمرأة في إيران صورةٌ مريرةٌ ترسخت في ظل نظام الملالي الذي يعاني من رُهاب النساء
المرأة في إيران: واقع المرأة الإيرانية يرتبط بدولة كبيرة ذات تاريخ قديم وعميق، وبمجتمع كبير في تركيبته وتنوعه العرقي والديني والمذهبي العقائدي والفكري... مجتمع ذو هويات متعددة لا يمكن اختزاله في فكرة أو رأي شموليين، والحديث عنه يطول. ولواقع المرأة في إيران ثلاثة صور... صورةٌ مريرةٌ يمكن تسميتها بالعبودية، وهي متوارثة من دكتاتورية الشاه، وقد ترسخت في ظل نظام الملالي الذي يعاني من رُهاب النساء، فرسخ منهج معاداة وقمع النساء وعمم الممارسات الاجتماعية الاستبدادية والعنصرية ضد المرأة، ولا يمكن مقارنة هذه الصورة لسوئها حتى على الصعيد الشكلي مع واقع المرأة في الموريتانية الذي هو أفضل بالطبع، والصورة الثانية للمرأة الإيرانية هي الصورة التي أصبحت من خلالها قدوة عالمياً ورسخت مفهوم النضال الأممي للمرأة، وهي صورة المرأة الحرة المسلمة المحجبة التي واجهت نظام الملالي المُدعي بالإسلام بحقيقة الإسلام وخرجت محجبة في مظاهرات ضد فرض الحجاب بالإكراه متبعة حقيقة الإسلام القائمة على أن لا إكراه في الدين، وفي هذه الصورة قالت المرأة الإيرانية الثائرة لا لدكتاتورية الشاه، وقد كلفها ذلك تضحيات جِسام وأسقطت الشاه ولا زالت ثائرةً تقول لا لدكتاتورية أفاعي ولاية الفقيه وتُصِر على مواصلة النضال من أجل سحق رأس الأفعى في طهران، وقد كلفها ذلك أكثر من 120 ألف شهيد من نخبة المجتمع... تضحية تستحق الانتباه والتقدير والإجلال والاقتداء. والصورة الثالثة هي صورة نساء إيران العُزل اللائي يقدن الانتفاضة الوطنية الإيرانية على أرضية الشوارع متأثرات ومقتديات بشقيقاتهن في منظمة مجاهدي خلق وفي أشرف، وملبياتٍ لِنداء السيدة مريم رجوي التي لا تقود المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية فحسب، بل تقود نضالاً أممياً لأجل كامل حقوق المرأة، بمعنى أنَّ الصورة الثانية بعد مسيرة نضال وتضحيات جسام وصبر قد أصبحت اليوم أساساً للصورة الثالثة التي تريد صناعة المستقبل الديمقراطي الحر في إيران وحجب سموم الملالي عن الشرق الأوسط والعالم.
إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه
وبمقارنة واقع المرأة ونضالها في موريتانيا مع واقع نضال المرأة في بلدان أخرى من العالم، نجد أنَّ أزمة المجتمع الموريتاني تتعلق بحقوق المرأة وتحريرها، ويحتاج هذا إلى تعزيز مسيرة المرأة النضالية في موريتانيا، وكإمرأة ونائبة مناضلة تنتمي بصدق إلى مجتمعها ومهتمة بأوساط طبقة المتعبين والمعدمين والكادحين التي أعود إليها وألتصق بها ليس لأنني منها فحسب، بل لأن هذه الطبقة هي أساس التنمية والنهضة في أي مجتمع؛ أرى أن الإصلاح يجب أن يبدأ من التنمية المجتمعية والبشرية، وفي مقدمة كل ذلك تنمية المرأة لينتقل نضالها إلى مرحلة نوعية تكون نواة حقيقية للتغيير، ويبدأ ذلك بتكريم المرأة الموريتانية المناضلة ليكون ذلك نقطة انطلاق نهضة نسوية موريتانية جديدة.
المجد لكل النساء المناضلات في موريتانيا والعالم مع قرب اليوم العالمي للمرأة في شهر آذار (مارس) المقبل.
التعليقات