اشتغلت إيران خلال الأربعين سنة الماضية على استراتيجية باتجاهين يكملان بعضهما، العمل داخلياً على بناء ترسانة تسليحية هائلة، وكذلك التركيز على مشروع المفاعلات النووية وصولاً إلى امتلاك السلاح النووي الإيراني، وخارجياً تعمل وفق التمدد المذهبي - الطائفي ثم الاستيطان الفكري الممنهج في دول الجوار، وهو ما يجري مع الدول ذات الأغلبية الشيعية، وإيران إسلامية خالصة مع الدول ذات الغالبية السّنية كما هو الحال مع حركتي حماس والجهاد أو بعض الدول الأفريقية والآسيوية.
تمكنت إيران جراء تلك السياسة الناعمة والمسلحة بالغاطس من تشكيل أذرع تنظيمية مسلحة مستثمرة في الدول والمدن التي تعاني فقراً وهشاشة ثقافية، وبكلف وأثمان يسيرة جداً لدولة نفطية مثل إيران مكنها من صنع عدد غير محدود من الميليشيات المسلحة، دفعت بها لأدوار قيادية في بلدانها مثل العراق واليمن ولبنان، أو تأسيس منهج الدولة العميقة أو دولة الظل التي تتحكم فيها عن بعد، وقد نجحت بذلك في تحويل هذه الدول إلى مراكز متقدمة جغرافياً للدفاع عنها وحمل عقيدتها، وبدورها انهمكت تلك الميليشيات في صراعات داخلية وتصفيات وتكريس لمظاهر الفوضى، ما جعل تلك الدول تتحول إلى مراكز إرهاب وفشل يطبق على مناحي الحياة كافة.
بعد أربعين سنة من العمل وإنفاق مليارات الدولارات، وجدت إيران نفسها عاجزة عن تحقيق أهدافها في التحول إلى دولة عظمى وإمبراطورية تعيد أمجاد بلاد فارس بعنوان جديد "إمبراطورية ولاية الفقية"، فقد أنهكها الحصار وفرطت بالمليارات من أجل فصائل مسلحة وإقامة أنظمة موالية لها تخوض حروباً داخلية منذ سنوات عديدة كما في سوريا واليمن ولبنان. لقد انتهت إيران إلى بلد متخلف صناعياً وبعيد عن أسواق العالم ومبتكراتها، عملتها منهارة بمعدلات غير مسبوقة، شعبها يعاني أزمات عديدة ونسبة الفقر خطيرة ترافقها احتجاجات على امتداد أيام السنة، أما في الجانب الأمني فقد عانت إيران من اختراقات عديدة ومن أعداء كثر، ولعل جريمة التفجير الذي وقع قرب قبر قاسم سليماني أول شهر كانون الثاني (يناير) الحالي وسقوط مئات القتلى والجرحى يشكل آخر المعطيات لضعف منظوماتها الداخلية الاستخبارية والأمنية وارتخاء قبضتها على الوضع الداخلي. إفراط إيران بالتدخل في شؤون الدول الخارجية وخصوصاً العربية، جعلها تهمل الوضع الداخلي والخدمي للمواطن الإيراني الذي وجد نفسه مطوقاً بالأزمات.
إقرأ أيضاً: أكيتو... وأحزان القدس!
تحالف العراق مع إيران بوجود سلطة الأحزاب الشيعية، جعل من العراق الرئة التي تتنفس منها إيران اقتصادياً بعد انفتاح الأسواق العراقية للبضائع الإيرانية، بحيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو عشرين مليار دولار سنوياً، عدا منافع وفوائد البنوك الإيرانية في العراق، وعددها أكثر من نصف عدد المصارف الأهلية العراقية، وهي منتشرة في عموم العراق، ناهيك عن الفصائل المسلحة الولائية لإيران وهو تحد معلن لسلطة الدولة العراقية كونها تمثل خروجاً على الدستور العراقي وتنتهك الأمن المجتمعي.
التطور الدراماتيكي الذي حدث في اليومين الأخيرين يأتي على نحو مفاجئ وصادم عندما أطلقت إيران 12 صاروخاً على مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان، بذريعة أنها قصفت مقراً للموساد الإسرائيلي! إجراء انفعالي يكشف أزماتها الداخلية ومحاولة تصديرها خارج إيران، ولعل سبب المفاجأة أو الصدمة أنه جاء بعد توطيد العلاقة وتطورها واندماجها أحياناً بين العراق وإيران، وكذلك بين حكومة كردستان وإيران وبلوغهما حالة متقدمة من التعاون والتنسيق بعد عقد اتفاقية أمنية بين البلدين حققت جميع مطالب إيران لحفظ حدودها وأمنها الداخلي.
إقرأ أيضاً: العراق: أميركا تزرع وإيران تحصد!
الصواريخ التي أطلقتها إيران في اعتداء صارخ على السيادة العراقية أحرق نتائج عشرين سنة من النشاط الفكري والعقائدي الذي بذله الإيرانيون في مشاريع كسب العراقيين من غير الشيعة، ولا نبالغ إذا قلنا إنَّ صورة إيران قد اهتزت أيضاً لدى الشيعة الذين يقفون خارج دائرة الولاء لإيران.
قصف أربيل وسقوط ضحايا مدنيين أدخل العلاقة بين حكومتي العراق وإيران في نفق الأزمة الحادة بعد أن قدم العراق شكوى ضد إيران لمجلس الأمن والأمم المتحدة، وكذلك مطالبة الجامعة العربية بعقد اجتماع طارئ لإدانة إيران عربياً، وارتفعت الأصوات المطالبة بمقاطعة البضائع الإيرانية وطرد السفير الإيراني.
إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟
يبدو أن الزمن السياسي الإيراني بدأ بالأفول بعد الأحداث التي شهدتها الأشهر الأخيرة، تراجع وهزال اقتصادي وأعمال عنف واحتجاجات في الداخل الإيراني؛ خسائر كارثية شهدتها غزة بعد سنوات من الدعم الإيراني والمحصلة مئة ألف ضحية وخراب شامل وتهجير ومستقبل بلا ملامح؛ الحوثيون دخلوا في مصيدة التوصيف باعتبارهم تنظيماً إرهابياً دولياً بحسب الإدارة الأميركية، وما ينتظرهم من عقوبات وقيود سياسية واقتصادية وعسكرية قد تنتهي لحرب تنهي وجودهم في حكم اليمن؛ انكماش الوضع في لبنان وانهياره اقتصادياً مع ارتفاع مستوى التذمر والتمرد، كذلك الحال مع سوريا التي أصبحت أشبه بالجسد المكرس للطعن اليومي بقذائف الطائرات الإسرائيلية؛ وأخيراً العراق الوسادة الدافئة اقتصادياً لإيران ووسيطها الإيجابي في الحوار مع الآخرين المختلفين معها بدأت تدخل أجواءً ضبابية بعد قصف السيادة العراقية باثني عشر صاروخاً بالستياً، ما يدفع العراق للموافقة على بقاء القوات الأميركية لسنين قادمة بهدف توفير الحماية من الاعتداءات الخارجية، بخلاف الرغبة الإيرانية التي تضغط على حكومة العراق بتقديم طلب انسحاب الأميركان من القواعد العسكرية العراقية.
التعليقات