يعد هذا السؤال أحد أهم أبعاد الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في حربها ضد غزة، والتي دخلت شهرها الرابع لتكون أطول حرب تشهدها المنطقة منذ عقود.

أبعاد هذه الدعوى وتداعياتها عديدة، أولها يتعلق بالدور الذي تقوم به محكمة العدل من الناحيتين القانونية والأخلاقية، لا سيما لجهة كونها أعلى المؤسسات القضائية التي تتبع الأمم المتحدة، وما تضفيه أحكامها من كشف الأقنعة عن المنازعات القائمة، فتعلن عن المتهم وجرائمه، وهذا إنجاز في حد ذاته لا يمكن تجاهله من قبل الأمم المتحدة ولا الدول المنضوية تحت لوائها، ولا الدولة المتهة. وفي حالة إسرائيل، وبالرغم من إدراكها أنَّ أحكام المحكمة تحتاج سنوات حتى تصدر، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تقف فيها إسرائيل، منذ تأسيسها، أمام محكمة توجه إليها تهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية.

إقرأ أيضاً: الجيش السابع الذي تخشاه إيران

بصرف النظر عن رفض إسرائيل هذه الاتهامات، إلا أنَّ تداعياتها على النقاشات في داخل إسرائيل من شأنها أن تعمق تحميل المسؤولية للحكومة الحالية، بدعوى أنها أوصلت إسرائيل إلى قفص الإتهام، فضلاً عن تداعيات أخرى تتعلق بالديموقراطية وأخلاقية نظام الحكم في إسرائيل. كذلك، تفيد الدعوى في إبقاء إسرائيل تحت منظار القضاء الدولي، تلاحقها تهم ارتكاب جرائم إباده جماعية في غزة، وهذا في حد ذاته خطوة متقدمة في تاريخ إسرائيل، ستترك انعكاسات مستقبلية على العلاقات التي تربطها بالعديد من الدول، لا سيما لجهة التشكيك في جدوى اتفاقيات السلام الموقعة مع الدول العربية خصوصاً.

وتذكرنا هذه القضية بمحاكمة قادة ألمانيا النازية في نورنبيرغ قبل 79 عاماً بتهمة إبادة اليهود، والتي تتكرر اليوم ممن عانوا الإبادة كضحايا، ويجدون أنفسهم لأول مره في نفس قفص الإتهام. وما تخشاه إسرائيل أيضاً هو محاكمة مسؤوليها، والإضرار بمكانتها، فضلاً عن خلق رأي عام مناهض لها ومقاطعتها، والإمتناع عن تزويدها بالإسلحة، وفرض عقوبات عسكرية ومقاطعة اقتصاديه عليها، وكلها تخوفات قائمة. وهذا ما دفعها إلى الذهاب للدفاع عن نفسها أمام المحاكمة لأول مرة.

ويقول معهد ديموقراطية إسرائيل إنَّ دعوى جنوب أفريقيا تمثل تحدياً كبيراً لإسرائيل، حيث صورها في وضع الدولة المنبوذة ورسم لها صورة سلبية. إذ حتى التدابير الموقتة لها تداعياتها، وإذا صحَّ أن المحكمة لا تملك صلاحيات تنفيذية، إلا أنَّ صدور حكماً يفرض تدابير موقتة، يعتبر انتصاراً كبيراً للفلسطينيين، فالمطالبة بوقف الأعمال التي تعرض المدنيين للخطر يؤكد على أن إسرائيل ترتكب جرائم إبادة جماعية. وكما يقول البروفيسور الإسرائيلي إلياف ليبليتش من جامعة تل أبيب، فإنَّ إدعاءات الإبادة الجماعية تمثل أخطر إدعاء قانوني دولي يمكن توجيهه ضد دولة ما. ولم تكن هذه القضية ممكنة إلا بسبب تصريحات السياسيين اليمنيين.

إقرأ أيضاً: "القوات الوكيلة": أداة النظام الإيراني لترويج الحرب وخلق الأزمات!

البعد الثاني أنَّ الدعوى تستمد قيمتها وقوتها ومصداقيتها وتأثيرها من الدولة صاحبة الدعوة. فجنوب أفريقيا بالدعوى التي بلغت 84 صفحة، تستند على المصداقية وعلى ركنيين أساسيين هما المادي والمتمثل في الدمار الشامل الذي لحق بغزة وطال المنازل والمدارس والمستشفيات والبنية الحتية، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وهذا الركن لا يمكن تجاهله، والثاني المعنوي المتمثل بالنوايا المسبقة والمعلنة على لسان العديد من المسؤوليين الإسرائيليين، وهي مثبتة ومنشورة. وجنوب أفريقيا بمرافعتها تدرك أنَّ الحكم بوقف الحرب يحتاج إلى وقت، لذلك ركزت على مسؤولية التدابير المؤقتة بوقف قتل المدنيين وحمايتهم، وفي حال صدوره، فإنَّ تأثيره لا يقل عن المطالبة بوقف الحرب، ويشكل رسالة قوية لإسرائيل لوقف الحرب إنقاذاً لوجهها ونظامها.

لكن لماذا جنوب أفريقيا؟ السؤال لا يحمل معنى التشكيك والاتهام، فجنوب أفريقيا دولة وازنة ولها حضورها الأفريقي والدولي وتربطها علاقات جيدة بكل دول العالم، وهي صاحبة تاريخ طويل في محاربة العنصرية والظلم الإنساني. وتمثل جنوب أفريقذيا اليوم دولة للتسامح والتعايش بين كل مكونات سكانها من البيض والسود، الذين ينعمون بدولة المواطنة الواحدة، وهذه رسالة لإسرائيل تحديداً، مفادها أنَّ الحل في التعايش والمواطنة والحقوق المتساوية.

إقرأ أيضاً: حرب السيوف الحديدية واليوم الذي سيلي

الرسالة الثانية التي تحملها الدعوى هي نبذ العنف والانتقام، وتذكرنا بمقولة "إذا أردت الانتقام أو فكرت فيه، فاحفر قبرين أحدهما لعدوك والآخر لنفسك"، وهذه الرسالة القوية للإسرائيليين والفلسطينين أيضاً. واليوم تؤصل الحرب روح الانتقام، لكن جنوب أفريقيا بدعوتها تقول للعالم إنَّ الانتقام ليس الطريق السليم نحو بناء الدولة وتعزيز العلاقات الإنسانية، وان السكان السود عانوا الكثير من ظلم وقسوة البيض وهم أقلية، لكن عندما قامت الدولة وحكمت الأغبية السوداء، لم تلغ مشاركة الأقلية أو تذهب للانتقام منها، وهنا يأتي دور نيلسون مانديلا في هذه الدعوة. فبالرغم من دخوله السجن، ظل مسيحياً متسامحاً، ولم يكره منتديات البيض ورموزهم مثل لعبة الريغبي التي كانت محتكرة من قبل البيض، لكنه حضر أولى مباريات المنتخب وضرب الضربة الأولى. لقد نجح مانديلا في بناء جنوب أفريقيا الواحدة المتسامحة، وهذا هدف دعوة جنوب أفريقيا انتصاراً للتسامح والتعايش ورفع الظلم عن الشعب الفلسطيني.

إنها دعوة تحمل فى طياتها كل إرث جنوب أفريقيا في محاربة العنصرية والكراهية والاستعلاء القومي.