ثلاثة نماذج لقيادة الدولة بعد أي عملية تغيير كبيرة يشهدها بلد ما، إمَّا بفعل الانتخابات أو نتيجة لثورة أو بعد انقلاب أو غيره. هذه النماذج الثلاثة مترابطة مع واقع اللادولة الذي نعيشه في العراق بعد عام 2003.

النموذج الأول هو المعروف في الدول الديمقراطية العريقة، حيث يفوز الحزب المعارض بالسلطة بتصويت ديمقراطي حر، وعند استلام الحكم، يعمل على تبديل قيادات الصف الأول في الدولة، فيما تحتفظ جميع المؤسسات بقادتها وخبرائها وموظفيها، وبعد ذلك، تبدأ تدريجياً التمهيد للسياسات الجديدة للحزب الفائز من دون المساس بدستور البلد، ومن دون التلاعب بالقوانين المعمول بها أو إقالة أي مسؤول لا ينتمي إلى الصف الاول، والمقصود به القيادات العليا والوزراء إضافة إلى مسؤولي الدوائر الحساسة، بمعنى أنَّ عمل المؤسسات الحكومية وتشكيلتها الثابتة منذ عشرات السنين تبقى على حالها، فهي مؤسسات تتطور بالتجربة والدراسات العلمية الدقيقة، وهذه المؤسسات هي ثروة من ثروات البلد، وليست ثمرة جهود الأحزاب، ولا يستطيع أي كان تغييرها، وحتى التغييرات المزمع تفعيلها مع الحزب الفائز لا بدَّ من أن تخضع لرقابة دستورية مشددة، ولا بدَّ من أن تكون هذه التغييرات ذات نتائج إيجابية ملموسة تنهض بواقع البلد نحو الأفضل، فالرقابة عندهم شديدة وغير قابلة للمحاباة والمجاملة.

إقرأ أيضاً: "القوات الوكيلة": أداة النظام الإيراني لترويج الحرب وخلق الأزمات!

النموذج الثاني هو النموذج التغييري الذي حصل في إيران بعد نجاح الثورة الإسلامية في العام 1979. فبعد انهيار النظام الشاهنشاهي وهروب معظم قادة وخبراء وضباط القوى الأمنية والكوادر العلمية إلى خارج البلد، عملت القيادة الإيرانية بعد فترة وجيزة من نجاح الثورة على استدعاء جميع الهاربين ومن ضمنهم ضباط السافاك (الجهاز الأمني المعروف في زمن الشاه) وعرضت عليهم امتيازات ومغريات للعمل مع النظام الجديد من أجل البلد لا من أجل المذهب ولا من أجل النظام الحاكم، وبكامل الصلاحيات ومن دون وصاية من الحرس الثوري الذي تشكل بعد سقوط الشاه. بذلك، استطاع النظام الإيراني الوقوف على قدميه ومواجهة التحديات، وبسرعة البرق عادت جميع المؤسسات الحكومية إلى العمل بفعالية كبيرة. أي أنَّ الواقع فرض على النظام الجديد التضحية بجزء من المبادىء بدل التضحية بالبلد.

النموذج الثالث هو الذي حصل في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، حين تمت إقالة جميع كوادر الدولة ومطاردتهم وسط اغتيالات بالجملة لقادة البلد وموظفيه وعناصره الكفوءة، وإحلال عناصر غير كفوءة وجاهلة محل أهل الكفاءة والاختصاص، فانهار العراق وسقط، ولم تقوَ الدولة بعدها على الوقوف على قدميها ثانية، حتى بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن. كانت تقف وراء هذا الخطأ الكارثي دول عدة تريد تدمير العراق، أولها إيران. واليوم الدولة في العراق تقاد من قبل رجالات اللادولة. الأحزاب السياسية التي استحوذت على الحكم بعد سقوط النظام السابق تمتلك الخبرة في الاغتيال والعمل التجسسي لصالح الدول الأخرى، وتمتلك القدرة على تعميم خطاب التجهيل، والجرأة على السرقة، فكيف سيستطيع اللصوص قيادة الدولة وهم لا يمتلكون حتى الولاء للدولة؟

إقرأ أيضاً: الجيش السابع الذي تخشاه إيران

إنَّ السعي والطموح والحلم بالمستقبل الجميل والتطلع نحو العلا كلها سقطت واندثرت تحت قيادة شخصيات لا تتحلى بالكفاءة وتجهل أسس إدارة الدولة، فسقطت على المستويات الشخصية والاجتماعية والوطنية، ومن يحاول أن يكون متفائلاً ولو بنسبة ضئيلة فمغفل يعيش الغفلة وخداع الذات، إذ لا مزايدة على الحقائق. لا يمكن أن تكون الدوافع المذهبية والرغبة في الانتقام للمذهب طريقاً لبناء الدولة، بل كانت سبباً لتدمير كيان الدولة، ونتحدث عن دولة بحجم العراق وما يملك من مكانة بين الدول تاريخاً وحاضراً، في حالة لا مثيل لها في تاريخ الأمم. لن تقوم دولة بهذه المقاييس الضيقة، وما الانتخابات والمشاحنات والصرخات واللطم والاستعراضات المليونية وحديث المقاومة إلا ترقيعات لقماش بالي متهرىء.

إنَّ الدول والمجتمعات تبنى بالعلم والمعرفة وبالعمل الدؤوب وبالتخطيط السليم، لا بالعنف والانتقام وفرض الأفكار التي لم تسعف منظريها أصلاً، فليت العقول تتحرر من مخلفات الماضي، وتنظر إلى الحياة بشكل واقعي وتعيد حساباتها، فالجرح ما زال ينزف، وما زالت الخسائر تتوالى على هذا الشعب المسكين بسبب هذا التغيير الشاذ.

متى يكمل البنيان يوماً تمامه... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم!