تتبادر إلى الذهن أسئلة عن أسباب الفساد والدولة العميقة التي تتحكم بكل مفاصل العراق، وهذا السيلان الأخلاقي الذي أباح كل شيء، ووضعنا في مقدمة فساد الدول والمجتمعات وتفسخها وتحللها.

أنحن حقاً أمة وشعب يجمعنا وطن اسمه العراق؟ أم سكان اقتضت ضرورات التاريخ والجغرافيا أن نتواجد في وادي الرافدين، وبدوافع المصالح والتصالح والخضوع المعيشي أن نحمل صفة مستوطنين، أو كما قال الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية عام 1921 حين جاء به الأنكليز ملكاً على العراق: "في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميّالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت".

هذه الأسئلة التي تبحث في الوجود العراقي، تحاول أن تلتقط إجابة تنسجم مع مبررات الخراب الحاصل في هذا البلد الذي جاء بغرائبية سلوكية لم يحفل بها تاريخ الأمم والمجتمعات جميعها بلا استثناء.

مجتمع ينتج مخالفات استراتيجية ضد وجوده وتقدمه، يسقط حضارته بمحض إرادته ويتجه بطواعية مثالية نحو البربرية المطلقة، يتقاتل سنوات لأسباب طائفية وأخرى احترازية وقائية، وثالثة للحصول على النفوذ والسلطة والمال والاستعلاء، بينما هو مصاب بأخطر داء يصيب الدول والشعوب، وأقصد به "الاحتلالات" المتعددة؛ احتلال التخلف واحتلال الفساد واحتلال الإسلام السياسي واحتلال أمريكا!؟

قبل مائة عام، وبعد استكمال دورة الأمية والجهل، شهدت البلاد احتلالاً "بريطانياً" مماثلاً من ناحية الوظيفة وقوانين الهيمنة، فتماسك الشعب بأغلبيته وأعطى مؤشرات نشوء أمة عراقية، تتحد وتتنافذ في أدوار وجودها ومصالحها ونظرتها للمستقبل، وتبتعد عن ارتكاب المعاصي والخيانات لمبادئ الوجود الطبيعي والفطرة الإنسانية.

بعد مائة عام، ومع تعدد الاحتلالات، يجد هذا الشعب نفسه منقسماً متشظياً ممزقاً طائفياً وقومياً ودينياً، ليس هذا فحسب، بل يتقاتل بالكلمة والشعار والرصاص والاستقواء بالآخر والعزلة والانكفاء الذاتي، وفي ظل دستور يطلق تسمية المكونات على أبناء الشعب الواحد: مكون شيعي وآخر سني ومكون ثالث كردي ورابع تركماني، فيساعد على التشتت وليس التوحد، يعطي الغلبة للهويات الفرعية ويسعى لإقصاء المواطنة، ومن هنا صار التغالب صفة الحوار القائم على التسقيط بين العراقيين!

تمظهرات منهج قراءة عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في الغزو والنهب والتطرف الحضاري تبرز بوضوح في ملامح السلوك الجمعي والفردي على حد سواء، بل صارت تلك المكونات تتفكك لمكونات أصغر في أحزاب وتيارات تصارع وتقاتل بعضها بهدف التموضع بالسلطة والنفوذ والأموال.

قبل مائة عام، أعطى العقل العراقي أنموذجاً متقدماً في قدرة العقل والإرادة على الانتقال النوعي من جماعات رعوية وقروية، لا تجمع بينهم جامعة كما وصفها مؤسس الدولة العراقية الملك فيصل الأول، إلى حياة مدنية تبتكر الحداثة وتبدع في إنتاج أنماط الحضارة والذوق والجمال، في زمن لم يتجاوز الأربعة عقود من 1921، تاريخ تأسيس الدولة العراقية، وحتى سقوطها في 1958. أربعة عقود أنتجت نخباً هائلة في العلوم والآداب والفنون والاحتراف السياسي وتيارات الفن والشعر الحديث الذي أسس لمنعطفات إبداعية جديدة على المحيطين العربي والعالمي، وريادة في المسرح والموسيقى وخطاب الفكر الديمقراطي والسياسي ومبتكرات الهندسة المعمارية وغيرها من شواهد الحضارة العراقية الناشئة التي سقطت بعد مجيء حكومات العسكر في 1958.

سقطت المدرسة السياسية القومية وكذلك الشيوعية، والآن نشهد سقوط الإسلام السياسي، بعد عشرين سنة من فساد تاريخي كارثي يفوق جميع مراحل تاريخ الإسلام السياسي بالعالم.

الاحتلال الأخير وضعنا على سكة التحلل والتآكل، ليس السياسي فقط وإنما الأخلاقي وانعدام الضوء نحو المستقبل الذي غطته ظلال الاحتلالات المتعددة، وهي تُجذر لفساد دائم وخلع مفاصل المجتمع والدولة في جولات اغتراب ثقافي وسلوكي يستعير من عمق أساطير الجهل والخرافة، تهجير قسري وافتعال كوارث وحروب تعطي فعلها بتحقيق التغيير الديموغرافي الذي استورثه زعماء الإسلام السياسي من منهج البعث السابق، وكذلك التحول الطوبغرافي الذي مارسته كل من إيران وتركيا فيما يخص الأنهار والبحر والحدود البرية.

عراقنا اليوم يراد له حسب أجندات التقسيم، التحول إلى ثلاث دويلات صغيرة، شيعية ترمي رأسها في الماضي وتتقدم في ثقافة المقابر، وسنيّة تسعى للبحث عن هوية والاتفاق على مرجعيات منزوعة عن أي تأصيل ماضوي، وكردية تضع اقدامها في العراق وتتلفت حولها محاولة لم الشمل القومي في حلم بعيد المنال!

بلاد يريدون لها أن تكون حديقة خلفية وساحة تجارب ومغامرات لدول الجوار التي تمسك بأطراف اللعبة في تغييب هوية العراق، بينما أهل البلاد يتشاتمون ويتقاتلون وينقسمون، إزاء موضوع يوقظونه من سرير الماضي البعيد، ولا يعنيهم أبد، وتلك لعبة الاحتلالات الناجعة.