قبل فترة، كتب الأخ بسام مرعي على صفحته في فيسبوك عن الإحباط الذي شعر به أحدهم بعد اللقاء والحديث المباشر مع فنان كان معجباً بصوته وغنائه، وأضاف عليها خاطرة قيمة عن التناقض ما بين المبدع وإبداعاته، أي بين مفاهيمه وما يفعله في الحياة العامة، وهي بشكل ما تندرج ضمن جدلية الانعكاسات السلبية التي يتلقاها البعض عند اللقاء مع الكتاب والفنانين والشعراء الكورد الذين كانوا يحتلون مكانة محترمة أو مبجلة عندهم قبلها. وهي إشكالية عامة ومثيرة وقابلة للجدل، كتب فيها الكثيرون ومن أوجه متنوعة، تأذت منها أغلب المبدعين وخاصة في مجالات الفكر والفن والعلم.

في الواقع، الإشكالية ليست في المبدعين عندما يسقطون من أبراجهم التي وضعهم الناس فيها، وتزال عنهم الهالة والهيبة التي رسموها حولهم قبل اللقاء بهم، وهي جدلية مثيرة ليست وليدة هذا العصر، بل غارقة في القدم، فما يقال اليوم هو ذاتها ما قيل فيهم البارحة، وكثيراً ما نسمع تهكماً على حديث لمبدع في تجمع ما، فيتلقفه العامة ليكيلوا نقداً يصل أحيانا إلى سوية الاستهزاء به وبإبداعاته. أتذكر أحدهم انتقد على صفحته في فيسبوك كاتباً كوردياً لغزارة نتاجه، وقال إنه لم يطلع عليه لأنه يراه إنساناً من شبه المستحيل أن ينتج بهذه الغزارة وهو رجل عادي، دون أن يدرك المتهجم أن المبدع يحمل طفرة جينية خارقة في هذا المجال؛ لا قدرة له على معرفة ملكاتها.

هذه المعاملة وتناقضاتها هي ذاتها كانت مع المبدعين والعظماء طوال التاريخ، أمثال سقراط، وزينون، وسينيكا، وليوناردو دافنشي، وميكيل أنجلو، وكانت، وسبينوزا، وفان كوخ، وبيتهوفن، وموزارت، أو حتى الأنبياء وما يسمون بالعظماء في التاريخ وخاصة السياسيين وقادة الجيوش وغيرهم، معظمهم تألقوا من خلال ما وصلنا من نتاجهم ومفاهيمهم دون الثانويات من علاقاتهم اليومية. ويدرج في خانتهم البعض من مفكرينا وكتابنا الكورد والفنانين، والشعراء، وغيرهم من المبدعين، الذين في الواقع هم من البسطاء عندما يعزلون عن ملكة الإبداع وحيث الطفرة الجينية الفكرية والمهيمنة على أعمالهم اليومية، دونها فهم يأكلون ويشربون ويذهبون إلى بيت الخلاء ويمارسون الجنس كغيرهم من الناس. فسقوط التقدير أو تغيير النظرة إليهم، هي نتيجة غياب الحكمة لدى الناس الذين كانوا يتوقعون عند اللقاء بهم أنهم سيلتقون بأشباه الآلهة، لا بأفراد من المجتمع.

تقييم المبدعين بالكلية المطلقة، دلالة على عدم الوعي وخطأ فادح، فهم بشر يحملون كل الصفات الإنسانية، السلبية والإيجابية، كالخجل أو العبث في الحياة، الغضب والحلم، السعادة والحزن، أو ضعف ملكة الحديث السلس، البخل أو الكرم، الجبن أو الشجاعة المتهورة، الصحة والمرض، النشاط والكسل، وغيرها من السمات التي تولد مع الإنسان.

ويجب عدم تناسي المهم والأهم، أن يتعاملوا مع السمة التي ظهروا بها كشخصيات منفردة ومختلفة عن الآخرين، والتي هي طفرة جينية متطورة، يتفوقون بها على غيرهم في المجتمع، وعلى عتباتها تظهر مداركهم التي تبهرنا وإبداعاتهم التي نستمتع بها، تضحكنا وتحزننا، تلهينا وتغمدنا، تدفعنا إلى الصراع مع الحياة بعزم أقوى.

على الناس عند ملاقاتهم أو الحديث معهم، البحث عن تلك الطفرة المميزة، وعدم الخروج من جغرافيتها، وحيث سمو ملكاتهم، حينها لن يخسروا تقييمهم السابق لهم، ولن يصيبهم الإحباط، بل سيحافظ الملتقي بهم على تقديره لهم. دونها لن يراهم الناس سوى بسطاء من الناس، وربما أدنى في أحاديثهم ومفاهيمهم وأحكامهم ولباسهم وأسلوب مأكلهم. وقد نوافق إلى حد ما مع قول الأخ بسام التالي "ربما الاحتفاظ بالصورة الجميلة أحسن من المفاجآت التي قد تحملها هكذا لقاءات".

من الخطأ، التعامل معهم كبشر يحملون صفات الكمال السوبرمان أو أشباه الآلهة، فهم دون الطفرة الجينية المميزة يحملون الكثير من النواقص، دونها التقييم هي ناقصة في وعي المتعامل معهم وليس في المبدعين.

المبدعون الكورد الذين نتحدث معهم على صفحات التواصل الاجتماعي، أو نلتقي بهم في قاعات بعض المؤتمرات أو التجمعات الاجتماعية، نراهم يلبسون كغيرهم ويتحدثون ربما بطريقة أقل تأثيراً من بعض المتكلمين من الناس، وربما أفكارهم في خارج مجال إبداعاتهم بسيطة ولا تجلب الانتباه، يتناسى الناس ملكة الإبداع لديهم، وبماذا يتفوقون، فتخرج أحكامهم كحكم زوجة سقراط عندما كانت تراه إنساناً فاشلاً، لم يتمكن من تأمين أبسط مستلزمات الحياة المعيشية لها ولعائلته، وكما كان الشارع يتعامل مع فان كوخ كإنسان مشرد لا قدرة له على تأمين أبسط مستلزمات الحياة، وكان يعيش عالة على أخيه، وكالحائز على جائزة نوبل في الكيمياء لخجله لم يتمكن من إلقاء كلمة الشكر أمام اللجنة والحاضرين، أو كتقييم خادم نابليون الذي كان يقول غريب أمر العالم وهم يعظمون هذا الإنسان الذي أراه عارياً يومياً، يأكل ويشرب وينام كغيره من البشر، ولم يدرك أن ما كان يقوله نابليون في حضرته، ولم يكن يجده مختلفاً عن غيره من الناس حوله، كان يهز عروش أوروبا، وما كان يقوله سقراط كان يهز حكماء وقادة أثينا، وما رسمه فان كوخ ولم يقيمه المجتمع الذي عاش معه وكان يراه رث الثياب في الشوارع، يباع اليوم بالمليارات، وما تركه من إرث ليوناردو دافنشي وميكيل أنجلو وبتهوفن وموزارت وتولستوي وغيرهم بنيت عليه الحضارات، ولا نستبعد أن مبدعينا في هذا اليوم هم قادة الحركة التنويرية لشعبنا الكوردي.

لذا يتوجب علينا أن نقدر مبدعينا من المفكرين والكتاب والفنانين والشعراء، حملة الطفرة الجينية المتطورة، الذين يسخرون نتاجهم لشعبهم، وكثيراً ما ينسون ذاتهم وعائلاتهم. يجب أن نقدرهم عند اللقاء كقبل اللقاء بهم، في حياتهم وليس بعد رحيلهم.