عجيبة هي هذه الشرعية الدولية التي يقودها الغرب. قمة العجب والهزل والهُزال، تستنهض عزيمتها في حين وتخبو حيناً آخر بأعذار، وتختفي عن الوجود في حينٍ آخر عندما تتعلق الأمور بحقوق الفئات الضعيفة من الدول والبشر. قيمها ومبادؤها وقوانينها وشعاراتها يصدح بها الإعلام والمؤسسات، وتتغنى بها الندوات، وتصدح بعناوينها وتفسيراتها وفلسفتها المؤتمرات، وصلبة حادة وحازمة عندما يتعلق الأمر بنخبة كبار هذا العالم، وتكون مرنة ومطاطية حين يتعلق الأمر بمفاوضات على درجة من الأهمية تخص نخبة الكبار ومشاريعهم، وعندما يتعلق الأمر بالضعفاء المستسلمين تكون في غيبوبة ثمالة تدعيها ولا ترغب أن تصحو منها.
هكذا عرفنا الشرعية الدولية، خيرها لبعض البعض وبيروقراطيتها عالية بقصد، وشرها وتخاذلها شامل وعام وواضح، ولنا في ذلك دليلين حاضرين اليوم، وهما مجازر الإبادة الجماعية في غزة، ومشاركة إبراهيم رئيسي رئيس جمهورية الملالي في منتدى اللاجئين في جنيف، ورئيسي ونظامه من المخلين بحق اللاجئين ومن صناع أزمات اللجوء سواء في إيران أو في العراق أو سوريا أو لبنان واليمن، واليوم نكبة غزة الناجمة عن عملية طوفان الأقصى التي يقف نظام الملالي المتحكم بإيران وراءها غير مبالٍ بالتبعات القاسية لذلك.
شكاوى قضائية ومطالب رأي عام
شكاوى قضائية عديدة من منظمات ولجان وشخصيات قانونية وحقوقية دولية مرموقة، ومطالب رأي عام من أوروبا وأميركا وأفريقيا والعالم أجمع، كان آخرها في سويسرا، تطالب بمساءلة ومحاكمة الرئيس الإيراني ونظامه لارتكابهم "جرائم ضد الإنسانية ومجازر إبادة جماعية بالإضافة إلى سجل نظام الملالي الدموي في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، ونشره للإرهاب والمخدرات، خاصة تلك التي أغرق العراق والأردن ودول الشرق الأوسط بها، وقد ثبت ذلك منذ عقود، وكذلك في السنوات الجارية فترة حكم رئيسي الحالية. والعجيب في الأمر أن أحداً لم يكترث بذلك، بدءاً من الإدارة الأميركية إلى الدول الأوروبية وصولاً إلى هيئات الشرعية الدولية، وبدلاً من اعتقال رئيسي في أميركا اعتلى منصة الأمم المتحدة ونعق على الحضور بما يشاء، مستخفاً بهم وبمؤسسات الشرعية الدولية التي أصبحت محفلاً للمجرمين والسفاحين وسفاكي الدماء وقتلة النساء والأطفال ومنتهكي حقوق الإنسان. وتكرر الحال في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي قبل بشخصية ذات منصب كبير في النظام الإيراني وتقيأ عليهم عمداً وفرضاً بما يريد.
مؤخراً كان من المنتظر أن يشارك رئيس جمهورية نظام الملالي في المنتدى العالمي للاجئين في جنيف، بالرغم من الشكوى القضائية المقدمة للسلطات السويسرية المطالبة بتوقيفه خلال زيارته المرتقبة إلى سويسرا. وتستند الشكوى على توجيه اتهامات لرئيسي ونظامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية على خلفية حملة مجازر الإبادة الجماعية سنة 1988 ضد المعارضة وجرائم بحق المتظاهرين العزل في انتفاضة تشرين الثاني/نوفمبر 2009، وكذلك في الانتفاضة الوطنية عامي 2022 و2023. ولم تكن سويسرا، التي ارتكب نظام الملالي جرائم اغتيال على أراضيها ولم تُحسم بعد، لتبدي أية رد فعل أو اهتمام شأنها شأن الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، الذي رفض تنفيذ قرار صدر بالأغلبية عن البرلمان الأوروبي القاضي بتصنيف ميليشيا ما يسمى بـ"الحرس الثوري" منظمة إرهابية، وهنا يبدو أنَّ العيب ليس في الجاني، الذي أصبح الإجرام أمراً غرائزياً في سلوكه، لكن فيمن شرع قوانين كانت النية من سنها منذ البداية فئوية وغير شفافة وانتقائية التنفيذ، وهي ذاتها من يعطي الضوء الأخضر لهؤلاء الجناة، سواء في طهران أو تل الربيع، بفعل ما يحلو لهم؛ ومن أمِن العقاب أساء الأدب.
في غياهب السجون
أكثر من 30 ألف سجين سياسي من المعارضة الإيرانية معظمهم من منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة تم إعدامهم بدوافع سياسية بحتة، ووفق فتوى من خميني، مؤسس نظام الملالي، ووُجِهت لهم تهمة الحِرابة التي لا تنطبق على أي منهم على الإطلاق ولا يمكن تطبيقها على الأقل بشأن هؤلاء السجّن حيث لا تتوفر فيهم الشروط، ويبدو أن الذي أصدر الفتوى إمَّا أن يكون جاهلاً بالدين أو غير مسلم يدعي الإسلام، ولديه بعض المعلومات التي لا ترتقي إلى مستوى الفتوى، وأُتيحت له الفرصة فأفتى بما لا يعرف غير مكترث بأن الإسلام نفسه يقول ومن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وقد كان هؤلاء الثلاثين ألف سجين سياسي من نخب المجتمع وصفوته، الذين لم يقبلوا بنهج وسياسة خميني ورهطه، بالإضافة إلى أن الكثير من هؤلاء السجناء السياسيين كانوا يقضون مدة أحكامٍ قضائية جائرة بالسجن، والبعض منهم قد أتم مدة محكوميته ووجب الإفراج عنه أو يُنتظر الإفراج عنه، ولو كان النظام نظاماً دينياً إسلامياً بالفعل وكانوا مُدانين بالفعل بحد الحِرابة، لحكمهم بإقامة حد الحِرابة عليهم بدلاً من أحكام بالسجن، وبالنتيجة أبادوهم جميعاً وقالوا تهمتهم الحِرابة، لكن الخبراء والضليعين بالشأن الإيراني أو المتابعين للأحداث في تلك الحقبة عندما يتذكرون خطابات خميني وتوجيهاته لجنوده وعماله وهو يقول لهم بخصوص المعارضين له "لاحقوهم... أبيدوهم"، يُدرك أنَّ هذه الشخصية لا علاقة لها بالدين، إذ أنَّ من يُفتي هو رجل دين مقيد بالفتوى نصاً وعملاً ولا يخرج عنها، والتوجيه بالإبادة لا علاقة له بالفتوى، كما أنَّ الفتوى لا تقبل المساومة والمحاباة، ومن يبايع خميني يتم الإعفاء عنه. هكذا كانت تفعل لجان الموت المكلفة بالتنفيذ، وقد كان إبراهيم رئيسي واحداً من المنفذين وعلى رأسهم، وتلك البيعة التي كانوا يساومون بها السجين لينجو بنفسه تنفي شرعية الفتوى والقضية والنظام برمته، وأن إعدامهم كان جريمة إبادة جماعية بكل المقاييس.
لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان من الممكن عدم إعطاء رئيسي تأشيرة دخول أميركية تفادياً للحرج، كونه شخص مُدان ومُدعى عليه، لكنهم أعطوه ومرافقيه تأشيرات دخول وذهبوا معه ونظامه إلى أبعد من ذلك، وكذلك فعل الأوروبيون، وهنا لابد أن نعي أنَّ المسألة ليست تشريعات وقوانين وشرعية دولية وحقوق إنسان وقضايا امرأة وطفل، وإنما هي مصالح ومخططات لا أكثر ولا أقل، وتلك التشريعات والقوانين لها تبويباتها ومساراتها التي يحددها كبار هذا العالم، فتارة يتم تفعيلها وتارة تدخل في غيبوبة طويلة، وتارة تكون ذات وجهين في آن واحد، وذات موقفين متشابهين: وجه فعال وحازم، وآخر تدخل فيه تلك الشرعية بحالة غيبوبة شديدة داخل كهف ولا تخرج منه إلا بصعقة شديدة تشعرها بتخاذلها.
سياسة الشركات العالمية
الموقف الغربي المتأثر بسياسة الشركات العالمية في ما يتعلق بنظام الملالي هو موقف داعم ويقع في دائرة نظرية إدارة الصراعات على مسار المصالح، الأمر الذي يتطلب وجود صانع أزمات ذو أيديولوجيا متناحرة أو متضاربة على الأقل يصنع الأزمة ويرعاها وله ما له وعليه ما عليه، وتستمر مصالح الشركات ومن خلالها مصالح الدول، وعلى هذا النحو يُدار الشرق الأوسط ولا يوجد صانع أزمات أفضل من نظام ولاية الفقيه.
كاد رئيسي أن يزور سويسرا لحضور المنتدى العالمي للاجئين في مشهد هزلي مثير للسخرية والشفقة على هذا العالم البالي وغير المنضبط. كاد رئيسي أن يشارك في مؤتمر يخص اللاجئين وأكثر الأنظمة إجراماً بحق اللاجئين هو النظام الإيراني بدءاً من أزمات اللاجئين على الأراضي الإيرانية وقد أصبح أبناء بعضهم جنوداً مرتزقة مُكرهين على ذلك يعملون لحساب ما يسمى بالحرس الثوري في سوريا والعراق، ووصولاً لملايين اللاجئين السوريين والعراقيين الذين دفعتهم تدخلات نظام الملالي في بلادهم إلى مغادرتها بعد أن أصبحت جحيماً عليهم.
أيعقل أن يكون لدى أميركا وسويسرا وأوروبا مبرراتها ولدى الأمم المتحدة ومفوضيتها السامية لشؤون اللاجئين مبرراتها ودوافعها لكل ما يعنيها؛ ولا دوافع ولا مبررات للعرب.
اليوم، وفي ظل كل هذه الأحداث والكوارث التي يتسبب بها نظام الملالي والمؤامرات التي يحيكها وباتت مفضوحة أمام الجميع، لا بدَّ من أن تكون للعرب أفعالهم وردود أفعالهم الصلبة، والتي لها كل المبررات المشروعة، في حين لا شرعية لأفعال وردود أفعال غيرهم. غير ذلك سيبقى العرب لقمة سائغة بيد كل من هب ودب.
التعليقات