اكتسبت الأغنية السياسية إمكانية التعبئة النفسية وتصعيد روح الاحتجاج والثورة. ويتكرس نجاح هذا اللون من الفن الاحتجاجي بالإبداع كلما تشبع بشحنات عاطفية وروائح الأرض والفكر الإنساني وثقافة الحرية، وهنا تتجلى الوظيفة الجمالية والفكرية وتخرج من معطفها المحلي والروح الشعبية لتمتزج بالفضاء العالمي. لقد أصبحت الأغنية السياسية تشكل البعد الموسيقي للأحداث الثوروية والتحررية التي تعيشها البلدان، كذلك في أوقات الحروب، وتحفل ذاكرة الشعوب بأسماء مهمة في عالم الأغنية السياسية مثل اليوناني ميكس ثيودراكسس مؤلف موسيقى زوربا اليوناني والنشيد الوطني الفلسطيني، والمغني والعازف التشيلي فيكتور جارا الذي اغتيل دفاعاً عن الحرية في بلاده.

يقول الشاعر الكبير سعدي يوسف:

"كل الأغاني انتهت إلاّ أغاني الناس

والصوت لو يشترى ماتشتريه الناس"

عالج صوت الأغنية السياسية جراحات الشعوب العربية وأحلامها بالحرية إبان الستينيَّات والسبعينيَّات من القرن الماضي، وكانت الأحداث السياسية والقضية الفلسطينية والحروب العربية مع إسرائيل تشكل الرافعة لهذا النوع من الأغاني، فكان محمد عبد الوهاب وأوبريت "الوطن الأكبر"، وأم كلثوم و"والله زمان ياسلاحي" و"أصبح عندي الآن بندقية"، وعبد الحليم و"صوره صوره" و"إحنا الشعب"، وروائع السيدة فيروز مثل "زهرة المدائن و"وطني" وغيرها، ولاننس الفنان اللبناني محمد سلمان وأغنيته الحماسية "لبيك ياعلم العروبة". جميع تلك الأغاني كانت تحاور وجدان الجماهير وأحزانها وأحلامها بعالم يرنو للسلام والحب، متحرر من الاستعمار والعدوان والدكتاتورية.

تطور عالم الأغنية السياسية، فتبناها فنانون عرفوا بهذا اللون دون غيره. تجربة اللبناني مارسيل خليفة تفاعلت مع قصائد محمود درويش لترفع صوت الرومانسية الثورية، كانت تلهب حماس طلبة الجامعات وشبيبة اليسار العربي في سبعينيات وثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي. مارسيل خليفة، حين يغني قصائد محمود درويش، يصنع أغنية مركبة من معاناة الحرب اللبنانية والاحتلال الاسرائيلي لبيروت مع كبرياء الجُرح الفلسطيني الذي زادته بلاغة وإدهاشاً قصائد درويش، ومن أسرار حياتنا آنذاك أن نحتفظ بكاسيتات مارسيل خليفة والفنان العراقي جعفر حسن الذي تبنى الأغنية السياسية بأسلوب يجمع الروح الشرقية بالعزف الغربي (الگيتار) وأحمد قعبور الذي اشتهر بأغنية "أناديكم" للشاعر الفلسطيني الكبير توفيق زياد، وغيرها من الأغاني التي حملت أصداء الروح الثورية. ولا تغيب عن الذاكرة أغاني الثنائي المصري المتمرد الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وكانت تشارك رفوف المكتبة لدى غالبية النخب الثقافية وجمهور الجامعات والمتذوقين من الجيل السياسي الباحث عن الحرية، ويجد في الغناء أحد تمظهرات ألقها الروحي والجمالي.

خريف عام ١٩٩٩ كنت برفقة الفنان سعدون جابر لحضور حفل لمارسيل خليفة في قاعة جامعة "أرينا" في الأردن، وكانت القاعة تتسع لثلاثة آلاف مقعد، وكان هناك المئات أمضوا وقت الحفلة وقوفاً وبعضهم جلس على الأرض لعدم وجود مقاعد شاغرة. الجمهور كان يرافق خليفة في أغنياته بدءاً من "أحنّ الى خبز أمي" وانتهاءً بأغنية "بحرية" التي ألهبت حماسة وانفعال الجمهور على نحو صاخب وغريب.

تلك الأغاني كانت الزاد المعنوي لفكرة المقاومة ومناهضة الاحتلال الإسرائيلي ومشاعر الثورة وأفكار اليسار، والآن انطفأت تلك الأغاني وصار الفرد العربي يكافح من أجل الخبز والهجرة من جحيم الوطن نحو مقابر البحار، والدول تهرول للتطبيع المجاني، وأصبحت قضية فلسطين ولبنان والعراق أخباراً تمر بلا اكتراث، فقد أصبح الجرح العربي أكبر من كل ذلك، ولا تستطيع الأغاني أن تداوي جروح الجيل الجديد واهتماماته السطحية، وانشغاله بموضوع الهروب إلى أوروبا للخلاص من واقع رث يحاصره بالفاقة والممنوع والتهديد بالموت الطائفي.

ببالغ الأسف نقول إنَّ حرب إبادة غزة دخلت شهرها الثالث ولم نستمع لأغان سياسية تضمد الجرح الفلسطيني وتتغنى بصمود وبسالة شعب الجبارين وهو يعاني من أبشع حرب انتقام وتدمير. وحدها جوليا بطرس تغني وكأنها تنزف في محاولة لاستيقاظ أبناء الأمة ومبدعيها (وين الملايين... الشعب العربي وين)، وكاظم الساهر يرثي ألم العراق بأغنية "بغداد لا تتألمي" وينتقد زمن انحطاط الحضارة، كما غنى لغزة أغنية باللغة الإنكليزية من دون أدائها بالعربية.

أنطفأ زمن الأغاني السياسية والجمهور ماعاد يحتاج سماعها. اختلف الجمهور العربي كثيراً عن زمن الأغاني السياسية، بل صار يكره كل ما يمت للسياسة بصلة، بعد الصدأ الذي ران على أوجاعه وإقامته الطويلة في عالم الحرمان وانغلاق آفاق المستقبل.