يعد إعلان الولايات المتحدة الأميركية "الفيتو" ضد قرار وقف الحرب في غزة الذي صوتت عليه أغلبية أعضاء مجلس الأمن الدولي، انحيازاً صريحاً للجريمة الإسرائيلية - الأميركية المستمرة ضد شعب غزة في شهرها الثالث، كما يمثل انعطافة أميركية صريحة للموقف العنصري لإسرائيل وتعاليم التعصب الديني لمنظومة حاخامات "الحريديم" التي تغذيها بعقيدة قتل وإبادة العرب عامة وشعب فلسطين بنحو خاص.

تراجع وإنحراف أميركي خطير بعد سنوات من ادعاء واشنطن تبني مشروع السلام في الشرق الأوسط والحلول العادلة لقضية فلسطين عبر حل الدولتين، وأطروحات التسوية لوزير خارجيتها آنذاك هنري كيسنجر. فمنذ سبعينات القرن الماضي، أصبحت أميركا الراعي الدولي لمشاريع السلام بين العرب وإسرائيل، والتي توجت بزيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس، في خطوة شكلت صدمة سياسية ونفسية للدول العربية وشعب فلسطين، ولم يدرك العقل السياسي التقليدي للحكام العرب وقتذاك معنى أن تتفاوض وتتصالح وتطبّع وأنت قوي، إذ تنتزع من إسرائيل مكاسب تفوق قبول المصالحة والتطبيع وأنت ضعيف.

حكمة السادات استثمرها ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال عبر اتفاقية وادي عربة عام 1994، وبعد ذلك ذهبت بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع مع إسرائيل لقاء السلام وبعض الامتيازات من أميركا وإسرائيل، وكان الثمن أقلّ من الاستحقاق. وآخر سنوات الانتكاس العربي صارت بعض الأنظمة تركض مسرعة للتطبيع ونيل الرضا الأميركي - الإسرائيلي، بإستثناء موقف المملكة العربية السعودية التي وضعت للتطبيع مع إسرائيل شروطاً في غاية الأهمية للعرب وشعب فلسطين وللمملكة، كونها القوة الأقدر على فرض شروطها على إسرائيل وأميركا، لكنَّ أحداث 7 أكتوبر وحرب غزة عطلت مشروع التفاوض.

الانحياز الأميركي الدائم لإسرائيل وضد كل ما هو فلسطيني دفع بها للتمادي والقتل المطلق وإظهار المزيد من ضروب العنجهية والانتقام الجنوني وتسليب جغرافية وتاريخ وطن برعاية الأساطيل الأميركية، بينما فلسطين تكتب قصيدة موتها اليومي وتردد مع نفسها ما دوَّنه محمود درويش من حقيقة ثابتة "أمريكا هي الطاعون... والطاعون أمريكا".

خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن خلال العدوان الهمجي الصهيوني الجاري على غزة، واتساقه مع الفكر الانتقامي للصهيوني بنيامين نتنياهو الرامي إلى محو غزة من الوجود، وإرسال حاملة الطائرات "فورد" دعماً لإسرائيل وطائرات تحمل المساعدات من أسلحة وصواريخ لإبادة الفلسطينيين، حسمت الجدل بانحياز أميركا والعديد من دول الغرب الأوروبي إلى جانب إسرائيل، من دون احترام للأنظمة العربية المطبعة، وعدم اكتراث لإرادة الدول العربية المنتجة للنفط والغاز مثل المملكة العربية السعودية والعراق وقطر والكويت والجزائر، وجميعها تحتفظ بعلاقات جيدة ومتميزة مع أميركا ودول أوروبا، لكن في حسابات الصراع، فإنَّ أميركا والغرب الأوروبي تقف إلى جانب إسرائيل ضد العرب، ولن تعترض على عدوانية إسرائيل مهما بالغت بها.

ما يحدث في غزة سيغير معادلات عديدة، سواء في علاقة الشعوب العربية بأنظمتها، أم علاقة الأنظمة بأمريكا وإسرائيل، وربما تسقط فكرة السلام والتطبيع أيضاً، كما ستطرأ تحولات سياسية جديدة، ولعل المبادرة التي أطلقتها السعودية في القمة العربية والإسلامية بالرياض في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 بتشكيل وفد عربي يضم وزراء خارجية عرب بقيادة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، وما حققته من نجاح على المستويين الدبلوماسي والسياسي، وتأثيرها على مواقف دول مجلس الأمن الدولي، يشكل دافعاً لتأسيس كتلة عربية دولية تحظى بتأثير دولي فاعل ومؤثر بالأحداث، تكتسب ثقلها بوجود السعودية ومصر والأردن وقطر الإمارات فيها، كتلة فاعلة في المحيط الإقليمي والحضور العالمي، تواكب ما يحدث في العالم من تكتلات سياسية واقتصادية بكونها السمة البارزة للزمن السياسي الراهن في العالم، حيث المصالح الاقتصادية والأمنية والتنموية تشغل مركز الاهتمام في تكتل الدول.