عادة ما تتعَرّض القوات الأميركية المُتمَركزة في العراق، والتي يَصل عددها إلى 2500 جندي، مُهمّتهم تقديم المَشورة والتدريب للقوات العراقية، إلى هَجمات من قبل المليشيات الموالية لإيران، زادَت وتيرتها بعد هجوم حَماس على إسرائيل واندلاع الحرب بينهما في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فمن حينها سَجّل الجيش الأميركي أكثر من 100 هجوم. لذا، رَد مؤخراً بهجوم وصَفه بالدفاع عن النفس، استهدف زعيماً لإحدى هذه المليشيات، كان من أبرز المُخططين لهذه الهجَمات.

أدّى الصِراع في غزة إلى التصعيد في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث شَنّت المليشيات المرتبطة بإيران، والتي تعادي أميركا وإسرائيل، هجَمات انتقامية ضِد القوات الأميركية في المنطقة ومنها العراق. وبالرغم من سَعي الحكومة الأميركية لمَنع حرب غزة من الانتشار إلى أجزاء أخرى من الشرق الأوسط، لكن دَعمها لإسرائيل أعطى المليشيات مُبَرراً لإثارة موضوع طرد قواتها من العراق، لذا تستفزها بهذه الهجَمات كي ترد عليها، لتعيش دَور الضحية وتجتَر أسطوانة المظلومية. الجهة الرسمية ذات العلاقة في الحكومة العراقية أي وزارة الدفاع، كان خطابها بعيداً عَن الاستقلالية ومَصلحة العراق المُستباح من قبل إيران وصَدى لخطابها. فقد وصَف المُتحدث باسم الجيش العراقي يحيى رسول هجوم التحالف بأنه "لا يختلف عن الأعمال الإرهابية"، مضيفاً: "نُحَمِّل التحالف مسؤولية الهجوم، ونعتبره تصعيداً وهجوماً على العراق". فهو لا يستطيع إنتقاد المليشيات التي تهاجم قوات حليفة متواجدة في بلاده بموجب اتفاقية ستراتيجية، لأنه يَعلم أن أحقَر مرتزق فيها بإمكانه أن ينزع عَنه رُتبَته ويُهينه، لذا يعمَد لمُهاجمة قوات التحالف بكلام، يعلم أنها لن تعيره انتباهاً ولا إهتماماً، لأنها تعلم دوافعه.

إقرأ أيضاً: "القوات الوكيلة": أداة النظام الإيراني لترويج الحرب وخلق الأزمات!

بالرغم من تصعيد مليشيات الحَشد الإيرانية هَجماتها على قوات التحالف، إلا أنَّ الأخيرة رَدّت في البدء بقصف مواقع هذه المليشيات في سوريا كي لا تثير احتجاجات في العراق، وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، بدأت مهاجمة مواقع المليشيات في العراق، لكنها لم تستهدف قادتها سوى في هجوم 4 كانون الثاني (يناير) 2024، بعدما ضاقت ذرعاً من تكرار الهجمات. فهي لا تريد الدخول حالياً باتفاق إنسحاب من أهم مناطق نفوذها، في وقت تزداد فيه التوترات الإقليمية. لذا، ربما كان رَدّها بإستهداف أحد قيادات المليشيات رسالة بأنَّ الهجوم على القوات الأميركية سيكون له ثمن، وزامنته مع الذكرى الرابعة لاغتيال الجنرال الإيراني الأكثر نفوذاً في الشرق الأوسط قاسم سليماني أثناء مغادرة مطار بغداد مع تابعه العراقي أبو مهدي المهندس. هذا التصعيد يَضَع حكومة السوداني المُعَيّنة والمدعومة من إيران في موقف صَعب، نتيجة للضغوطات التي يمارسها عليها قادة المليشيات، مثل تصريح قيس الخزعلي زعيم مليشيا العصائب: "ندعو الحكومة العراقية لاتخاذ خطوات حاسمة لإنهاء وجود التحالف في العراق". ونتيجة لانضمام كثير من المسؤولين العراقيين لجوقة المطالبين بإنهاء مهمة التحالف، بعد أن نجَحَت المليشيات في دفع الرأي العام العراقي، نخباً وعواماً ورعاعاً، إلى التشَدّد ضد تواجد قوات التحالف الدولي. بالإضافة إلى سيطرتها على البرلمان الذي سَبق وصَوّت على قرار غير ملزم لطَرد هذه القوات بعد استهدافها سليماني والمهندس.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

يعتمد رئيس الوزراء العراقي على دعم الملشيات التابعة لإيران، فوصوله إلى السُلطة كان بدعمهم. ويشكل ممثلوهم جزءاً كبيراً من ائتلافه الحاكم. لذا، قرر بين ليلة وضحاها إنهاء وجود التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق، وقال في بيان صدر عَن مكتبه، يبدو أنه صيغ في السفارة الإيرانية، إنَّ حكومته أكدت مراراً أن السلطات العراقية وحدها مخولة باتخاذ إجراءات ضد انتهاكات القانون، مؤكداً عزمه على إنهاء وجود التحالف الدولي في العراق لزوال مُبَرّراته! وتريد حكومته أن تتفاوض مع الولايات المتحدة لمناقشة انسحاب قواتها، ولن تتراجع عن هذا الالتزام لأنَّه يتعلق بالسيادة الكاملة على أراضي العراق وأجوائه ومياهه! متناسياً أن العراق لا سيادة له على أراضيه منذ عقدين، وأن السيادة الكاملة على أراضيه وأجوائه ومياهه وساسته ومرجعياته ونخبه وأبناءه، إلا ما رَحِم ربي، هي لإيران بلا مُنازع بفضل مليشيات تضُم مرتزقة من أراذل المجتمع العراقي، تتباهى بموالاتها للمرشد الإيراني، وهي وأسيادها وحدَهم من يُقرّرون ما يكون أو لا يكون في العراق، سياسياً ودينياً واجتماعياً، على الأرض أو في الماء أو الهواء، فهو ما كان ليَحلم بأن يُصبِح ساعياً لرئيس الوزراء لولا إيران، وأي قائمّقام بإيران له صلاحيات في محافظته أكثر مِمّا للسوداني مِن صلاحيات في العراق، وسَعيه لإنهاء الوجود العسكري للتحالف في العراق هو لجَعل النفوذ الإيراني مطلقاً، لأنه يمثل سكينة بِخاصرة هذا النفوذ.

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

إن دَعوات المُطالبة بانسحاب القوات الأجنبية من العراق ليست جديدة. فعام 2018 طالب البرلمان العراقي حكومة بغداد بتقديم الشكر لجنود التحالف على دعمهم في الحرب ضد داعش، والتفاوض على جدول زمني لعودتهم إلى ديارهم. وجَدّد البرلمان مطالبته بعد يومين من اغتيال الولايات المتحدة قاسم سليماني. الحكومة العراقية عادة ما تتجاهل هذه المطالب، لأن أطرافها منقسمة بخصوص هذا الأمر، فأغلب القوى الشيعية المُقرّبة من إيران تطالب بمُغادرة قوات التحالف، كونه مطلب إيراني، لأنها إما ربيبة إيران وآديولوجيتها منذ عقود كمنظمة بدر، أو باتت كذلك بعد 2003 وارتبط وجودها بها كالعصائب، وتعلم أنها ما كانت لتكون أو تبقى لحظة دون دَعمها. أما القوى السنية والكردية، فبالرغم من أنَّ بعضها كان أو لا يزال لديه تحالفات مَرحلية مع إيران، إلا أنها بالمُجمَل مع بقاء هذه القوات لضَمان وجود ثقل موازن لنفوذ إيران، لأنهم يعلمون أن خروجها يعني أن شركاءهم من الشيعة، ومعهُم إيران، سيبتلعونهم، لذا نجد أنَّ أغلب قواعد قوات التحالف هي اليوم في مناطق السنة والأكراد، وبالرغم من ذلك تتعرض للقصف مِن قِبل المليشيات الشيعية، وآخرها القصف الذي تعرضت له أربيل قبل أيام مِن إيران، وذهب ضحيته مدنيين، إلا أنها زعَمَت أنه استهدف مقرّاً للمخابرات الأميركية والإسرائيلية! ورغم سُخف مزاعِمها، إلا أن أكثر مِن نصف الشارع العراقي يُصدّقه ويُعيد ترديده كالببغاء! ولنا أن نتخيل ما الذي يمكن أن تفعله إيران ومليشياتها في حال خروج القوات الأميركية، إذا كانت تفعل ما تفعله الآن والقوات الأميركية موجودة!؟ لذا، أي عراقي لديه ذرة مِن عَقل يفكر بالمنطق، يعلم أنَّ الخطر على العراق هو مِن ايران ﻻ أميركا، فايران دولة توسعية ملتصقة بالعراق، تسعى لابتلاعه مِن زمن أور إلى اليوم، ما عدا ثأر القادسيتين الذي لم ولن تنساه، وكل ما يَجنيه العراق منها هو الزناجيل والمليشيات والمخدرات. أما أميركا الفن والعلم والتكنلوجيا، فهي دولة حديثة برغماتية، لا حدود لها أو ثارات مع العراق، وجودها في العراق على المدى البعيد، في ظل وضعه الحالي، بات ضرورة لأمنه ومستقبله، لتنظيفه من قاذورات إيران المتمثلة بالحشد. فالقوات الأميركية حليفة، وإن كان فيها جوني وتوني وسانشيز، أما مليشيات حشد إيران فهي مُرتزِقة ومُحتلة، وإن كان فيها عراقيون مُغرّر بهم مثل س أو ص، أو رعاع كأبو درع وأبو عزرائيل.

إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه

هناك أمثلة عديدة لما يمكن أن يحدث لمَن يقف بوجه أجندة إيران، أو يفكر بذلك. أحدها هو محمد الحلبوسي، الذي هادَن إيران وأتباعها في العراق ليتمكن مِن الحركة، فنجح بأن يُصبح رئيساً للبرلمان، وحَقّق إنجازات لجَمهوره تُحسب له، وحين ظن أنه بات قوياً وانقلب عليها أصابته في مقتَل، وحَرّضَت عليه إمّعات من مُكَوّنه رَفَعوا عليه قضية بالمحكمة انتهت بعَزله. المثال الثاني هو مسعود البرزاني، الذي كان حليفاً لأتباع إيران مِن العراقيين أيام المعارضة، وليس حليفاً مباشراً لها كالطالباني، لذا استجار بصَدام قاتل أبيه وأخيه عام 1995 خلال حربه مع الطالباني المَدعوم من إيران، وما إن تحالف مع الأردن ودول الخليج، حتى أطلقت عليه إيران قطعان حشدها المَسعور في كركوك عام 2017 وضَمّتها إلى حاشية محافظات الوسط والجنوب الخاضعة لنفوذ إيران، بالتواطؤ مع حزب الطالباني، لتذكره بأنها صاحبة الكلمة الأخيرة في العراق، ومن يخرج عن طوعها يكون عقابه عَسيراً. أخيراً وليس آخراً، مَن يُشاهد حال مدينة الموصل، سيَعلم ما يمكن أن يحصل مع جميع مدن الغربية، أو مدن إقليم كردستان، ذات الغالبية السنية، في حال باتت تحت نفوذ الملشيات الشيعية، فقد سيطرت هذه المليشيات عليها بحُجّة تحريرها من داعش، وهي تصول وتجول فيها سَرِقةً وتقتيلاً. ففي عام 2019 انفجرت سيارة قُرب مطعم لإبتزاز مالكه، وحين شُكِّلَت لجنة تحقيق، تَبَيّن أن التفجير وراءه عصابة ترتبط بمليشيا للحشد، وأن هذه الملشيات تسيطر على المدينة أمنياً واقتصادياً. وأظهر تسجيل لمحافظ نينوى قوله أمام اللجنة "إن وجود المليشيات قانوني، ولا تقدِر أي قوة أن تخرجهم". وكلنا نتذكر حادثة غرق عَبّارة الموصل براكبيها الـ285، في منطقة سياحية خاضعة لمليشيا لديها مَقّرات في المدينة، تعرف بالمكاتب الاقتصادية. وتخضع منطقة سهل نينوى لسيطرة لوائَين من ملشيات الحشد، هما اللواء 50 و30، أدرَجَت وزارة الخزانة الأميركية أسماء قيادييها ضِمن قوائم عقوباتها، وحينما حاول رئيس الوزراء السابق عبد المهدي إنهاء دور المليشيات في المدينة، وتسليم المناطق التي تُسيطر عليها الى القوات الأمنية، رفضَ لواء 30 قراره. ورَشَقت عناصره سيارات قائد عمليات نينوى بالحجارة، عِندما حاول التفاوض معهم.

فهَل سيَمضي السوداني في قرار أسياده في قم، ويجلس مع الأميركان ليُطالبهم بالرحيل؟ أم أن كلامه للاستهلاك المَحَلي وإستعراض عَضَلات وبهلوانيات لقوى الإسلام السياسي الشيعية التي أثبتت فشَلها في حكم الدول، وأكّدَت أنها لا يمكن أن تكون سوى فرق باطنية تنشر سموم الطائفية، أو ميليشيات مُرتزقة تُنَفِّذ أوامِر أسيادها؟