كلما طال أمد الحرب الدائرة في غزة، ارتفع مستوى الخطر على الجبهة الشمالية لإسرائيل مع لبنان. فالمناوشات التي باشرها "حزب الله" ضد إسرائيل في اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى" تحولت إلى حرب استنزاف على جانبي الحدود المشتركة.
فالجنوب اللبناني المحاذي للحدود مع إسرائيل أفرغ من سكانه الذين اضطرهم القصف إلى النزوح بعشرات الآلاف، والدمار بدأ يزداد في القرى والبلدات بفعل الضربات الإسرائيلية العنيفة. أما الشمال الإسرائيلي فقد أصبح بدوره فارغاً من معظم سكانه. والمواقع العسكرية الإسرائيلية المنتشرة على طول الحدود تعرض معظمها إن لم يكن جميعها إلى ضربات من "حزب الله" دمرت العديد من أجهزة المراقبة والتتبع الحدودي أو أخرجتها من الخدمة. وبالتالي تراجعت قدرة الجيش الإسرائيلي على المراقبة البرية، ما اضطره إلى الاستعاضة عنها بتكثيف المراقبة الجوية حيث يتمتع بتفوق واضح وحاسم.
وقد أظهر "حزب الله" أن لديه قدرات كبيرة على مستوى التسليح والعنصر البشري المدرب. لكنه واجه ويواجه مشكلة عميقة مردها إلى التفاوت الكبير على المستوى الاستخباري بينه وبين إسرائيل. ففي الوقت الذي يفتقر الحزب المذكور إلى شبكة واسعة من المخبرين على الجانب المقابل من الحدود في شمال إسرائيل، فإن الأخيرة تمتلك شبكة ضخمة من المخبرين والمتعاملين معها على الأراضي اللبنانية، لا سيما في قلب معقل "حزب الله" في الجنوب، لأن من المتوقع أن تكون لديه شبكات في مختلف مناطق نفوذ "حزب الله" من الضاحية الجنوبية إلى البقاع وغيرهما. وقد ترجمت إسرائيل تفوقها الاستخباري، وهو يعتمد أيضاً على التكنولوجيا المتطورة، بمراقبة داتا الاتصالات واستخدام الذكاء الاصطناعي باستهداف العديد من قيادات الحزب المذكور الميدانيين، إضافة إلى اغتيال القائد في حركة "حماس" صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، إذ تشير التحقيقات إلى أن إسرائيل قاطعت في هذه الضربة بين العنصر البشري والذكاء الاصطناعي والسيطرة على الأجواء.
ما تقدم يشير إلى أن الحرب التي قد تنشب بين إسرائيل و"حزب الله" لن تكون نزهة للطرفين، لا سيما أن إسرائيل ستخوضها على قاعدة أنها حرب وجودية ثانية تضاف إلى حرب غزة. وقد تلاحقت في الأيام القليلة الأخيرة التسريبات الصحافية الإسرائيلية التي رجحت اندلاع الحرب، لأن التحدي على الحدود الشمالية مع لبنان كبير جداً. ففي تقدير المستوى الاستخباري الإسرائيلي الذي لم يعد سراً، فإن "حزب الله" يمتلك ما يكفي من القوة والقدرة التكتيكية على الأرض من أجل أن ينفذ عملية واسعة تفوق في خطورتها واتساعها عملية "طوفان الأقصى". فالحديث عن احتمال حصول اجتياح مستقبلي من الشمال لعشرات البلدات والمستعمرات الإسرائيلية في الجليل الأعلى وإصبع الجليل، حيث طبيعة الأرض بين المرتفعات والسهل أشد تعقيداً على إسرائيل، متى تسلل مئات المقاتلين من الجنوب اللبناني. هذا الحديث ليس ضرباً من الخيال بعد تجربة غلاف غزة الدراماتيكية.
صحيح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ومجلس الحرب يعانيان خلافات داخلية كبيرة. لكن الصحيح أن القيادة الإسرائيلية تفكر بعقلية الحرب الوجودية لا الحرب السياسية أو التوسعية. ومن هنا خطورة الموقف بالنسبة إلى لبنان. فعلى الرغم من أن "حزب الله"، بتشجيع من طهران، يحاول تجنب الحرب الشاملة مع إسرائيل، توازياً مع مواصلة الحرب الاستنزافية، فإن مخاطر الحرب حقيقية، لأن قرار الحرب والسلم بات خاضعاً لمعادلة لعبة حافة الهاوية بين المحور الإيراني وإسرائيل ومعها الولايات المتحدة. لذلك من المحتمل جداً أن تؤدي حرب "حزب الله" الاستنزافية إلى اندفاع إسرائيل لمعالجة خطر الجبهة الشمالية المستقبلي بجريرة تصفية خطر قطاع غزة.
- آخر تحديث :
التعليقات