هل يسمح القارئ بمزيد من نشازات العزف على قضايا الموسيقى العربية؟ القلم يتصوّر أن العالم العربي اليوم متطوّر ثقافيّاً ألف مرّة عمّا كان عليه في زمن الكندي والفارابي وابن سينا، أيّام كان الخوض في مباحث الموسيقى يحتاج إلى قدم راسخة في الفلسفة والرياضيات. اليوم لا يأس، فلنا الأماني، فيوماً ما ستنطبق على فتات الأغاني: كان في سالف الزمان. من كلّ الأشكال الموسيقيّة الزاخرة في الجهات الأربع، لا يملك هذا الفن عند العرب غير شكل الأغنية، راحت أجيال وجاءت أخرى، والغذاء على الدوام سندويش، أغلبه بلا قيمة غذائية.
خطر على البال أن الطفل العربي مظلوم ذوقيّاً، مغيّب عن آفاق الإحساس بالجمال، في الموسيقى بالذات. يمرّ بسلسلة مراحل مقلقة، من الأسرة إلى المدرسة وفي نهاية المطاف المجتمع. تأمّل كرة الثلج المأساوية: إذا كان ذوق الأبوين راقياً، فإن أرجاء البيت ستكون خافقةً بروائع أساطين موسيقانا. تخيّل صبيّةً تسأل أمّها: «ماما، ماما، هو الإنسان عنده جناح حتى تضوّي بينه النار؟ شو معناها: تكاد تضيء النار بين جوانحي»؟
أمّا المدرسة فصدمة موسيقية، منذ عتبة الابتدائية. الأناشيد التي يتوهمها الواهمون فناً يرتقي بذوق الطفولة، فكلمات هذا الصنف في أكثرية البلدان العربية تفتقر إلى الحد الأدنى من مقاييس جماليات الشعر، وغير قليل ما هو في درك الرداءة. لا حديث عن الألحان، فسمع التلميذ يقع من حالق، إذا كانت الأسرة تنتعش بالفيروزيات صباحاً، وتستمتع بالكلثوميات مساء. الذين يختارون الأناشيد كأن في أذهانهم أن الأطفال أصفار ذوقاً وفهماً.
المنعطف الضروري هنا هو افتقار العالم العربي بكامله إلى الموسيقى الصالحة للصغار. السبب مصيبة أعظم، وهو أن موسيقانا غير مستقلّة عن الكلام. بعبارة أقسى: ليس لدينا موسيقى تعبّر عن عوالمها من دون عون ومدد من المفردات. بينما الموسيقى هي اللغة التي تعبّر عمّا لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه. يجب أن تدرك الأسرة، قبل غيرها، أن الموسيقى المستقلة الجادة، ليس فيها صغار وكبار. موتزارت واحد للجنين والوليد والمراهق ومن جاوز التسعين. بيتهوفن واحد للأطفال والنساء والرجال. شوبان واحد للجميع. لكل المخلوقات، حتى الخرفان يزداد صوفها، والأبقار حليبها، والنباتات نموّها: ذلك أثر التردّدات المتناغمة، والذبذبات المتوافقة.
لزوم ما يلزم: النتيجة اليقينية: أوَ حسبتم أن أذن الرضيع الذي ينشأ على روائع الموسيقى الجادّة، ستعبأ بالتهريج الصوتي عندما يكبر؟
التعليقات