في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نفذت «حماس» عمليتها العسكرية، التي أطلقت عليها «طوفان الأقصى». وقد اعتبرت هذه العملية من قبل عدد كبير من المراقبين والمحللين السياسيين، الأكبر ضمن العمليات التي نفذتها الحركة ضد إسرائيل منذ تأسيسها.
والواقع أن هذه العملية اعتبرت فشلاً استخبارياً كبيراً للموساد، الذي يصنف واحداً من أقوى الأجهزة الاستخباراتية في العالم. كما اعتبرت انتصاراً كبيراً ل «حماس»، وتجسيداً لقدرتها على تحقيق اختراقات كبيرة وغير مسبوقة داخل البنيان الإسرائيلي.
ردة الفعل الرسمية الغربية تجاه ما حدث كانت متعاطفة ومؤيدة بالمطلق لإسرائيل، غيبت أسباب العملية، والأحداث السابقة عليها، التي تمثلت في بقاء قطاع غزة لأكثر من سبعة عشر عاماً تحت الحصار، وأيضاً استمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس الشرقية، وقطاع غزة لأكثر من خمسين عاماً، منذ حرب يونيو/ حزيران عام 1967.
وصل الرئيس الأمريكي جو بايدن لإسرائيل، في اليوم التالي لعملية «حماس»، وأعلن تأييده المطلق لنتنياهو، وتتالى حلفاء أمريكا بالوصول إلى تل أبيب، فقدم الرئيس الفرنسي، ورئيس الحكومة البريطانية، وعدد آخر من رؤساء الدول الأوروبية. وأعلن بايدن عن تقديم دعم عسكري كبير للحكومة الإسرائيلية، ليتبع ذلك دعم مالي كبير، من قبل الكونغرس الأمريكي.
ومنذ الثامن من أكتوبر الماضي، ولمدة تزيد على الشهر، استمر القصف الجوي الإسرائيلي العشوائي على قطاع غزة، من غير تمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية. بات مباحاً، تدمير كل شيء، وكان غالبية الضحايا من المدنيين العزل، نساء وأطفالاً.
وقد بلغ عدد الضحايا من الفلسطينيين في القطاع قرابة ثلاثين ألفاً، وما يقرب من السبعين ألف جريح. وفي الضفة الغربية، تجاوز عدد المعتقلين السبعة آلاف شخص، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال.
وحشية العنف الإسرائيلي قلبت معادلة التأييد الذي حصده نتنياهو في الأيام الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، إلى نقيضه. واللافت للانتباه أنها المرة الأولى التي تواجه فيها الحكومة الإسرائيلية غضباً عالمياً، على المستوى الشعبي. فقد عمت التظاهرات المناوئة للهمجية الإسرائيلية معظم عواصم العالم، والمدن الرئيسية، بما في ذلك المدن الأمريكية، والعاصمة البريطانية والفرنسية. وبات الحديث عن الدولة الفلسطينية أمراً متكرراً ومألوفاً.
وفي الوطن العربي، شمل الغضب جميع الدول العربية. وتطور الموقف العربي الرسمي المؤيد للفلسطينيين. وقد حمل الاجتماع الوزاري العربي التشاوري، الذي عقد في العاصمة السعودية، نبرة واضحة وصريحة تجاه الدعوة الفورية لوقف العدوان على غزة، والسماح بالغذاء والدواء للمواطنين الفلسطينيين في القطاع.
التصريحات الأخيرة التي أطلقها الرئيس الأمريكي بايدن، والتي حملت رفضاً صريحاً لرفع إسرائيل سقف الحرب على غزة، والموقف الإيجابي من مبادرة «حماس» حول تبادل الأسرى تعتبر تحولاً جديداً في سياسة الرئيس بايدن. وقد تزامن هذا الموقف مع دعوة صريحة لفتح معبر رفع من قبل المصريين والإسرائيليين، لدخول المساعدات الغذائية، وتلبية احتياجات المدنيين الفلسطينيين من الدواء.
والأهم في التحول بالموقف الأمريكي هو اعتبار قيام الدولة الفلسطينية المستقلة حلاً حاسماً للأزمة الحالية. ورغم أن الدعوة لقيام دولة فلسطينية مستقلة من قبل رؤساء أمريكيين هي دعوة قديمة، بدأها الرئيس جيمي كارتر في اجتماع مشترك مع الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي، ليونيد بريجينف، وتبناها من بعده رونالد ريغان، وإن بصيغة مخففة، اقتصرت على الدعوة لقيام حكم ذاتي، إلأ أنها كانت أكثر وضوحاً، مع بل كلينتون، حيث اعتبر الدولة الفلسطينية المستقلة مفتاحاً لحل معظم الأزمات في المنطقة، وإسهاماً في تعضيد الأمن والسلم الدوليين.
وحده الرئيس دونالد ترامب تنكر بالمطلق للحقوق الفلسطينية، واعتبر تحسين الوضع الاقتصادي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة هو الحل للأزمة، مختزلاً القضية في حقوق اقتصادية، وليس موضوع احتلال. وتزامن ذلك مع اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وكان ذلك سابقة غير معهودة في السياسة الأمريكية، رغم التبني الأمريكي لإسرائيل، ودعمها المستمر منذ تأسيسها عام 1948 بكل عناصر القوة والقدرة على الاستمرارية، وقضم الحقوق الفلسطينية.
ما الذي يدفع بالرئيس بايدن لإعلان موقف جديد تجاه القضية الفلسطينية، مغاير للموقف الذي تبناه، إثر السابع من أكتوبر الماضي؟ هل هو نابع من تغير حقيقي في موقفه الشخصي، هو الذي قال ذات يوم، لو لم توجد إسرائيل، لوجب تأسيسها؟
الجواب كما يراه كثيرون هو التغير الكبير في المزاج الشعبي الأمريكي والعالمي الذي نتج عن وحشية الهجمة الإسرائيلية على الفلسطينيين. إن على بايدن، وهو يعتزم إعادة الترشح لدورة رئاسية قادمة، أن يأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي طرأت على مزاج الناخب الأمريكي تجاه الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.
إن هذا التغير يبدو أمراً جوهرياً وأساسياً لنجاح حملته الانتخابية، المرتقب إعلانها قريباً. وموقف بايدن في هذا السياق، يبدو موجهاً ضد سياسة نتنياهو، وليس ضد إسرائيل. إن ما يجري على الأرض الآن من وجهة نظر بايدن هو بسبب السياسات اليمينية الإسرائيلية، وعلى هذا الأساس فإن مجيء بديل عنه، أكثر ليبرالية، من شأنه أن ينهي الأزمة الراهنة ويعزز من قوة الدعوة لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
التعليقات