عقب تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، كان قادة إسرائيل على وعي كافٍ بأن وجودها في محيط عربي يفوقها تعداداً لن يسمح لها بالبقاء طويلاً، لهذا ركزت في استراتيجيتها على عدة محاور، غير أن أهم محور فيها كان الاعتماد التام والكلي على تفوقها الأمني والعسكري، ولهذا بدأت بالاهتمام الشديد بتقوية قطاعاتها الأمنية والعسكرية بأقصى ما تستطيع لتتمكن من مواجهة أي تهديد يسعى لتقويض وجودها.

وفي محور القوة العسكرية ركزت إسرائيل أكثر على القطاع النووي؛ باعتباره سلاح الردع الوحيد الذي يضمن لها تفوقها على جيرانها العرب (على الرغم من إنكارها المستمر لذلك) فقد كانت إسرائيل تعرف تمام المعرفة أنها مستثناة من كافة الاتفاقات الدولية التي تمنع صنع السلاح النووي، وذلك لحماية الولايات المتحدة والكثير من الدول الغربية لها، وقد أنشأت إسرائيل مفاعل (ديمونة) في صحراء النقب، وادعت أمام الرأي العام العالمي أن بناءه تم لاستخدامه في الأغراض السلمية، غير أنها في الوقت نفسه تفرض ستاراً حديدياً على أنشطة هذا المفاعل وترفض رفضاً قاطعاً إخضاعه لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وبخلاف ذلك أيضاً، قامت بضربات استباقية وضربت بعض المنشآت العسكرية في بعض الدول العربية؛ أملاً منها في قطع الطريق على تلك الدول للتفكير في أن تمتلك سلاحاً نووياً من الأساس، وبهذا ظنت إسرائيل أنها ستظل محتفظة بميزة التفوق العسكري والنووي وستتمكن من إخضاع بقية الدول العربية لتهديداتها، مما يجعلها تتوقف عن مجرد التفكير في امتلاك السلاح النووي، غير أن هذه الاستراتيجية لا يمكننا سوى أن ننعتها بالفشل الذريع، فإسرائيل تعتقد أن كافة الدول ستظل ساكنة أمام رؤية تعدياتها المستمرة.

من الحماقة أن تظن إسرائيل أن لغة القوة ستمكنها من التفوق على الدول العربية، فالتقنيات العسكرية لم تعد سراً الآن، والكثير من الدول المصنعة لها تتسابق لبيعها للدول المهتمة، كما أن العديد من الدول تمكنت من تطوير قطاعها الحربي والعسكري، وغدت قادرة على توطين إنتاج الطائرات الحربية المتقدمة والمسيّرات العسكرية؛ سواء لأغراض التجسس أو الهجوم دون حتى الحاجة للاستعانة بالدول العظمى، وهذا بخلاف أن امتلاك ترسانة نووية لم يعد رهناً بامتلاك المفاعلات النووية، فالكثير من الدول تستطيع أن تمتلك الرؤوس النووية دون أن يكون لديها مفاعلات نووية، والدول التي ترغب في بيع التكنولوجيا النووية كثيرة، وكثير منها يبغض إسرائيل ويكره سياساتها التعسفية ضد العرب.

تذكرنا هذه الاستراتيجية بالاستراتيجية الحالية التي تركز إسرائيل على اتباعها في حربها ضد غزة، فإسرائيل تركز على تصفية المقاومة في غزة والضفة؛ ظناً منها أنها ستتمكن من دفن القضية الفلسطينية ووأدها للأبد، ولو عاد زعماء إسرائيل إلى العقود الماضية فسيجدون أنهم قاموا باغتيال الكثير والكثير من قادة كافة الفصائل الفلسطينية على اختلافهم، ومع ذلك فالقضية لم تمت، فالمقاومة في فلسطين -أياً كان زعماؤها- تهدف لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة ومقاومة الاحتلال الغاشم، وخصوم إسرائيل ليسوا شخصاً واحداً، بل خصومهم هم كافة الشعوب العربية، وكلما ذهب جيل منهم سيأتي جيل آخر، وسيظل هذا الأمر كما هو عليه حتى تعود للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، ومن الملحوظ أن إسرائيل تقوم بترويع الفلسطينيين في غزة كوسيلة للضغط على الدول العربية لاستقبالهم ولو مؤقتًا -على حد زعمها- لكن الهدف هو طردهم من غزة ليعيشوا في مخيمات مشتتة في بعض الدول العربية أسوة ببقية الشعب الفلسطيني عقب مجازر الإسرائيليين في عام 1948، ومن ثم تقوم هي بتوطين اليهود في غزة بدلاً منهم لفرض أمر واقع جديد مشابه لما حدث في الضفة الغربية.

غير أننا لو افترضنا جدلاً أن إسرائيل تمكنت من اغتيال كل زعماء المقاومة، فسيظهر جيل فلسطيني جديد تماماً يعلن خصومته مع إسرائيل ويكافح عدوانها ويسعى لإعادة الأراضي المنهوبة لأصحابها أيضاً، ويزخر التاريخ بأمثلة عديدة تؤكد هذا الأمر، فعلى سبيل المثال لا الحصر في عام 1373 اغتالت إسرائيل في عملية فردان عدداً من الزعماء الفلسطينيين، وعند اجتياحها للبنان قامت بقتل الألوف من الفلسطينيين، وأصرت على إخراج قوات فتح من لبنان، غير أن القضية لم تمت أيضاً، ومن الواضح أن ما تعاني منه إسرائيل حالياً هو نتاج مباشر لعدم قراءتها للتاريخ جيداً وإصرارها على تجاهل الواقع، وتجاهل أن طول استمرار الصراع سيُكسب القضية الفلسطينية المزيد من التعاطف دولياً.