لا أزعم أني أعرف جيداً «سوق الغرب»، البلدة اللبنانية الواقعة في قضاء عاليه أحد أقضية جبل لبنان، ويقال إنها دعيت كذلك لأنها كانت سوقاً لمنطقة الغرب في الجبل، وتُعرف بغنى غاباتها من الصنوبر، كما تتيح لها إطلالتها على بحر بيروت، من علوّ، منظراً خلّاباً وساحراً. قلت إني لا أعرفها جيداً، ولكني مع ذلك أعرفها بعض الشيء، وزرتها مراراً لا مرة واحدة، في سنوات الإقامة في بيروت التي مضت عليها أربعة عقود.
في منتصف المسافة بين سوق الغرب وعاليه، المصيف اللبناني الجبلي الشهير، تقع مجموعة من البيوت الحجرية المغطاة أسقفها بالقرميد الأحمر، والمحاطة بغابات الأشجار الداكنة الخضرة. يومها استأجر صديق لنا أحد هذه البيوت، وهو عبارة عن طابق أول في دارة أنيقة مكوّنة من طابقين، تؤدي إليها درجات سلم حجري، فيما كان مالك الدارة، وهو رجل دين مسيحي، يقيم في الطابق الثاني، الذي تقود إليه، هو الآخر، درجات سلم حجري مشابه.
كان صديقنا يدعونا، بين الحين والآخر، لقضاء نهاية الأسبوع في هذا البيت، الذي كانت له شرفة تطلّ على منحدر متدرّج من أشجار الصنوبر التي تغطي قرى صغيرة جميلة، ومن خلفها تتراءى بيروت بكل سحرها. في الأمسيات كان النظر من الشرفة إلى أضواء المدينة وهي تتلألأ متعة حقيقية، أشبه بالنظر من نافذة طائرة مُحلقة على علو منخفض لمدينة حديثة. ورغم أننا لم نكن نخلد إلى النوم مبكرين، فإن المناخ الندي الجميل والنسمات العليلة التي تتسلل في الصباح توقظنا باكراً بشعور من النشاط والحيوية.
أعود الى ذكرى «سوق الغرب» وجوارها، بعد قراءتي فصلاً من مذكرات المفكر الفلسطيني هشام شرابي بعنوان: «صور الماضي»، المنشور في «كتاب الأسئلة»، وهو يحكي جوانب من ذكريات طفولته، فرغم أنه من مواليد مدينة يافا الفلسطينية عام 1927، إلا أنه أمضى طفولته في مدينة عكا. وكانت عائلته، خاصة والدته، تحبّ قضاء معظم أشهر الصيف في «سوق الغرب» والجبال المحيطة بها في لبنان، حيث كانت العائلة تقيم في بيت كبير تملكه سيدة لبنانية اسمها «الست لبيبة»، وكان البيت، هو الآخر كما البيت الذي استأجره صديقنا، يطلّ على بيروت والبحر، وتحيط به حديقة كبيرة.
حكا شرابي أنه وشقيقه خالد عندما كانا طفلين كانا يجلسان عند نافذة ذلك البيت التي تطلّ على الحديقة والطريق خلف البيت ومن ورائه الجبل المليء بأشجار الصنوبر، والمطل على سوق الغرب، يتفرجان، مستمتعين، على ما يحدث في الحديقة وعلى المارين في الطريق.
كان هذا يوم كانت الدروب سالكة بين فلسطين ومحيطها الشامي، قبل أن يُحاصر شعبها أو يُشرّد.
التعليقات