عند لبنان فلسفة عميقة لدولة المواطنة في عالمنا العربي، وعند هذا البلد الصغير في جغرافيته تتجذر مفاهيم التحولات العابرة من الوطن إلى اللاوطن، فهذه البلاد ليست هي مجرد أغنيات فيروز الحالمة، وكذلك ليست الصورة المتخيلة في الوجدان القومي العربي، بل هي أبعد وأكثر مما تبدو وما يجب أن تبدو عليه المشهدية بين ما كان وما هو موجود على الواقع.

لبنان نشأ مبكراً جداً حتى أنه يكاد أحد أهم تعريفات الدولة الوطنية العربية، الحكاية كانت بعد الحرب العالمية الأولى وفي فترة الانتداب الفرنسي ظهرت فكرة الدولة الحلم في وجداننا العربي السارية منذ ذلك الوقت فالفكرة تكوين «لبنان الكبير» ليكون وطناً جامعاً للأديان والطوائف في حدود سياسية واحدة. 1920 أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو تكوين هذا البلد غير أنه ظل خاضعاً لسلطة المستعمر الأجنبي، الخروج من الاحتلال العثماني إلى الاحتلال الفرنسي بقيّ مكبلاً لحرية الشعب غير أنه وضع قالباً لاستيعاب المواطنة في بلد كان عليه مهمة تذويب الثقافات بل قبل التاريخ، لم تكن حقيقة الاستقلال الوطني غائبة فلقد ظلت هاجساً ومحركاً لعبت فيه بيروت إلى جانب شقيقاتها بغداد ودمشق والقاهرة وعدن دوراً تفاعلياً لا يمكن حصره عند أسم شخصية من الشخصيات بمقدار ما يجب الإقرار أنه كان مخاضاً عابراً في عواصم غذتها القوميّة العربية باعتبارها مادة التكوين، وعلى ذلك لم يكن أو تكون الدولة بغير الامتداد لجذر القومية العربية.

لبنان تشكلّ على منصة ثلاثة رجال مسيحيّ ودرزيّ وسنيّ، كانت صورة تمثل القدرة في استيعاب الآخر والقبول به في دولة المواطنة، هل غاب عن الآباء المؤسسين في لبنان أن أحفادهم لن يعّوا فكرة التعايش أو أنهم غاب عنهم الواقعية في أن التنوع الديني والثقافي يتطلب شكلاً من الحماية، كانت العواصم تفرز حراكاً أنتج حركة القوميين العرب و«البعثيين» وغيرها من التشكيلات ذات النهج اليساري، واليسار ليس بمثلبة كما أنه ليس بمثاليّ أيضاً. والناتج كان زخماً هائلاً أسهم بفعالية في تشكيل قوى التحرر الوطني العربي وعليه تشكلت البلاد العربية بهويتها الوطنية الحديثة. لبنان وقع كغيره من أقرانه في مشكلة، وبيروت كانت كبغداد وعدن والقاهرة اللاتي تحملنّ التحولات التالية لنكبة فلسطين 1948 ثم النكسة 1967.

اليساريون الغاضبون كانوا مدفوعين لاسترداد الحق العربي، غير أنهم وبدوافع الغضب تناسوا أن بلدانهم كانت تتحمل ضغوط الحروب بالوكالة. ولا يمكن بحال من الأحوال الهروب من محاكمة التاريخ والجنايات الكبرى التي تحملتها البلدان، وهي تؤمن بالحق الفلسطيني لكن هناك جملة أخطاء وقع فيها اللبنانيون كما هم المصريون واليمنيون الجنوبيون وغيرهم فعدم محاسبة القيادة الفلسطينية على قراراتها، التي جرت دول وشعوب لتخوض صراعات هتكت مع حدّتها النسيج الوطني لتلك البلاد بما فيها لبنان الذي وجد نفسه في العام 1975 يعيش حرباً أهلية دموية قاسية.

سمحت قيادات لبنان السياسية ليكون بلادهم أرضاً مفتوحة فتحملت بلادهم الكلفة حرباً، والحقيقة أن التنوع اللبناني مشهد طبيعي بينما غير طبيعي كان الحظ العاثر الذي لم تستوعبه قيادات ما بعد الاستقلال، وما بعد الجلاء فيما يتطلب من الحماية للقيم ومبادئها. الاندفاع غير محسوب العواقب دفع اللبنانيون ثمنه تمزقاً حقيقياً في نسيجهم الوطني، تسللت الطائفية والمذهبية لتخلق عداوات لم يكن يعرفها الرجال الثلاثة الذين صنعوا اللبننة بمعنى لبنان المتنوع والمنسجم مع مكوناته، على منصة لبنان الكبير.

الحظ العاثر لم يأتِ من الفراغ بل صنعته أيادٍ سياسية أساءت التقديرات ولم تنظر إلى الأيام التالية والثمن ها هو لبنان بعد المئوية الأولى باحثاً عن ذاته وعن حكاية النشأة والميلاد.. ومع كل هذا الحظ العاثر لابد من أن يدرك جيل هذه اللحظة، أنه لا مكان للساخطين على ما مضى، فالحاضر فيه فرصة ممكنة لإسقاط الطائفية والمذهبية والعودة إلى لبنان الحقيقي كما هو.