كثر هم الذين يعتبرون فن التأليف القصصي من أقدم الفنون الأدبية التي عرفها الإنسان على امتداد تاريخ البشرية، وهناك من يؤكد أن القصة أسهمت في رقي الإنسان وحفظ منجزاته، وبسببها تناقلت الأجيال المعارف والأخبار والأحداث، وتبعاً لهذا فإن القصة تطورت مع تطور الإنسان، حتى باتت لها اشتراطات وحدود ومعالم وطقوس، بل إن النقاد في هذا المجال لا يمنحون التميز والتفرد إلا لمن حافظ على عدد من الاشتراطات في مجال الحبكة والترابط، حتى أن البعض يسأل أين الزمن وآخر أين الحدث وثالث أين المكان، ولذا نجد من هذه الفئة رفضاً لقبول حتى مفهوم القصة القصيرة جداً، بل حتى مؤلفي القصة أنفسهم استهواهم التحديد والتأطير ووضع اشتراطات لهذا الفن، لن أضرب مثالاً بمن أصدر مجموعة قصصية واحدة واعتقد نفسه مرشداً وموجهاً في هذا المجال، بل سأختار للدلالة على هذا الجانب بالمؤلف والروائي الكبير روبرت لويس بلفور، وهو مؤلف الرواية الأكثر شهرة في العالم «جزيرة الكنز»، حيث قال: «ليس هناك إلا ثلاث طرق لكتابة القصة؛ فقد يأخذ الكاتب حبكة ثم يجعل الشخصيات ملائمة لها، أو يأخذ شخصية ويختار الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية، أو قد يأخذ جواً معيناً ويجعل الفعل والأشخاص تعبر عنه أو تجسده».

وإذا أمعنا النظر جيداً بهذا القول فإننا نجد أن هذا الكاتب الشهير، قد حدد واشترط وأكد أنه لا يوجد إلا ثلاث طرق لكتابة القصة، وبالتالي من سيخرج عن هذا الإطار فإن نصه قد لا يكون قصة أو لا يعد كاتباً قصصياً مميزاً.

في ظني أن هذا يسمى إقصاء ومحاولة يائسة لتحديد أطر هذا الفن الأدبي العريق، وهذه المحاولات لا تستقيم مع بيئة القصة وطبيعتها المبنية على التجديد والتكيف مع كل زمن ومع كل حضارة ومع كل أمة وشعب، فما يميز القصة أنها مشاعة حتى أن الأطفال يمارسونها، كما أن العجزة وكبار السن يتقنون فنونها وملامحها والجميع يحكي ويقص، فنحن عندما نجلس مع بعض ونتبادل أطراف الحديث فإننا في الحقيقة نقص ونروي الأحداث بشكل متنوع وثري، لذا أعتقد أن الفن القصصي ثري وغني، إلا أنه وبسبب هذا التأطير ومحاولة التحديد وتخصيصه ومصادرته خفت لدينا، وهذه حالة يمكن تعميمها على مستوى العالم العربي كافة، ورغم ثراء القصة في تراثنا الأزلي ومرافقته لكافة الأحداث التاريخية التي عاشتها أمتنا إلا أنه وبشكل أو بآخر يعد اليوم مقموعاً ومجتزأً، وبات العالم يحكي ويقص، ونحن كأمة عريقة عاشت وتناقلت موروثها وقيمها بالقصة، إلا أنها اليوم فقيرة في هذا الإرث الإنساني، فلا يمكن أن نقارن القصة العربية بالقصة الأمريكية أو الأوروبية على مختلف أنواعها أو حتى بالقصة الصينية.

نحن نعيش في عالمنا العربي في معضلة حقيقية تتعلق بمصادرة الفنون والآداب الإنسانية العامة من فئات تعتقد أنها تتكلم بلسان هذه الفنون والآداب، والسبب أنها لاقت نجاحاً هنا أو هناك.. أعتقد أنه على كل مؤلف للقصة أن يتخلص أولاً من هذه الأقلام وهذه الأصوات ويعلّق نظره بالقارئ وحسب.