يقول مارك توين: "لا يعيد التاريخ نفسه، لكنه غالباً ما يردد الإيقاع ذاته". وليس النظام الإيراني استثناءً.

هذا النظام ليس ديكتاتورياً، بمعنى أنه لا يمتثل أوتوماتيكياً لإرادة تعسفية واحدة، بل هو نظام شمولي يفرض بالحديد والنار عقيدته على كل مفاصل المجتمع. ذلك أن النظام الإيراني يستبطن خلطاً فريداً وفذاً، بين الشمولية ومستوى مضبوط من تداول السلطة، بما يسمح بإدارة الصراعات وتفادي انفجارها.

رغم ذلك يسمح لنا هذا القدر الطفيف من الشفافية، بتتبع تحولات ومآلات عميقة تجري في صلب السلطة والمجتمع.

عموماً، يبدو أن إيقاعاً يحكم إيقاع دورة حياة الدولة الشمولية! فبدءاً من صعودها عبر مظلوميات ضد قديم متفسخ، تنمو على وقعها الغابات العقائدية بوعودها التخريفية، ثم يثمل الناس في طهرانية من العنف الثوري والغضب حتى تستولي على السلطة.

بعدها، لا تدوم اللحظة العقائدية طويلاً، بل تنزلق السلطة حثيثاً من سلطة مطلقة للعقائديين، لتصعد البيروقراطية الجديدة في نسغها، لتشاركهم في بناء السلطة المحسوبية الحديثة. قد يختلف النغم بين الدول الشمولية، لكن الإيقاع يبقى ذاته، امتداداً من فرانكو إلى الأنظمة الشيوعية إلى الأنظمة الثورية العربية، وصولاً إلى بيت القصيد، النظام الإيراني.

وإذ تستريح، يوماً بعد يوم، الأجهزة الأمنية والعسكرية الإيرانية على أرائك السلطة والثروة في طهران، تنزلق السلطة نهائياً إلى يدها، ليرفل الثوريون بنعمها، فـ"الله مقسم الأرزاق"، وتصير الدولة امتداداً لملكيتهم يديرونها باسم شركاتهم "الثورية".

مع التحولات العميقة لمصلحة البيروقراطية العسكرية الإيرانية، ضاقت مساحة التسامح في الانتخابات، واستُبعد الإصلاحيون، لتطفو الصراعات بين الجيل العقائدي الراحل في قم وحول "المرشد الأعلى" من جهة، والبيروقراطية العسكرية من جهة أخرى.

نعم، لم تكن العبرة من الانتخابات الإيرانية في استبعاد الإصلاحيين، وسيطرة المحافظين، بل العبرة في أنها كرّست الصراع داخل معسكر المحافظين ذاتهم. صراع بين المتشددين العقائديين، والمتشددين الأمنيين في الحرس الثوري حيث تتركز الثروة والسلطة لحوالى 70% من النشاط الاقتصادي الإيراني.

يشمل معسكر المحافظين العقائديين الكتل المقربة من المرشد الأعلى في مجلس ائتلاف القوى الثورية (شانا) الذي تقوده غلام علي حداد عادل، زوجة نجل خامنئي، ومجلس الوحدة بقيادة محمد باقر قاليباف، ومحسن رضائي الأمين العام السابق لمجمع تشخيص مصلحة النظام، إضافة إلى جمعية رجال الدين المقاتلين. وفي المقابل، تتبلور القوائم الانتخابية للبيروقراطية العسكرية للباسدران في تحالفات الجبهة الصامدة ومراكز القوى المالية حول إبراهيم رئيسي، وكتل الشباب في "صباح إيران".

رغم الدعوات المتكررة إلى المشاركة في الانتخابات التي شارك فيها المسؤولون الكبار وخامنئي ذاته، تسبب اغتراب البيروقراطية عن المجتمع، واستبعاد المرشحين، وإحجام الإصلاحيين، والإحباط العام من الأداء الاقتصادي السيئ، وقمع الحركات الاجتماعية، بانخفاض كبير في المشاركة يفوق كل التوقعات.

قالت السلطات إن المشاركة بلغت 40.7% لكن باحتساب 8% من الأوراق الباطلة تنخفض المشاركة الفعلية إلى 33%، بل تصبح النسبة في طهران 25% بسبب الأوراق الباطلة 10%، ليكون الخاسر الرئيسي في هذه الانتخابات هو رئيس البرلمان السابق محمد باقر قاليباف، ومن خلاله المرشد الأعلى.

ويعكس هذا التحول بعمق تراجع نفوذ خامنئي الذي أدرك متأخراً الهيمنة الحاسمة لقوى الباسدران. فمن خلال جيل جديد من القادة صارت هذه القوى القطب المقرر لمستقبل النظام الإيراني.

نلاحظ أن دور الباسدران يتركز في مجلس صيانة الدستور، حيث شهد أعنف موجة من استبعاد المرشحين على مدى العقود الماضية. وجاء التصويت الخاصّ بمجلس الخبراء الذي ينتخب المرشد الأعلى ويعزله، ليعكس خسارة بائنة للاريجاني وروحاني لمقعديهما، ليتضح من جديد مقدار ضعف خامنئي.

فلطالما سعى المرشد الأعلى لأن يكون الحكم الخلاسي في هندسة الكتل المحافظة المتنافسة وحراكها. لكن تدخله العلني لمصلحة قاليباف، يشير إلى مستوى ضعفه وامتعاضه من المؤسسة العسكرية والأمنية وليعلن لاريجاني أن المواجهة لا تقتصر على احتلال أغلبية بسيطة في البرلمان، ولكنها مجرد بداية في "لعبة التطهير". إذ ستكون بنية البرلمان، هي الأكثر تعقيداً وتنازعاً ليصبح أكثر هشاشة وأقل استقراراً.

تنذر نتائج الانتخابات بالعديد من التغييرات المحتملة في سياسات إيران الداخلية والخارجية. إذ تكسر هذ الانتكاسة مكانة رئيس البرلمان قاليباف من جهة، ليبقى مصيره معلقاً في الهواء. فإما أن يفقد منصبه لمصلحة البدائل العديدة التي تطرحها الجبهة الصامدة، أو أن يحتفظ بمنصبه بالاستفادة من الصراعات المتنامية في صفوف خصومه.

لم يعد الأمر متعلقاً بخلافة الولي الفقيه فحسب، بل يتعلق بمصير مليارات الدولارات، إذ يتوقع توجيه هذه المليارات نحو برامج التسليح والتطوير النووي، حيث يدعو بعض الفائزين البارزين في الانتخابات، علناً، إلى امتلاك أسلحة نووية، والمزيد من التصعيد الإقليمي والتصعيد مع الغرب.

وفيما تشير الأدلة التاريخية إلى تركيز المرشد الأعلى على التعاون مع دول الخليج العربية، لاقت جهود المصالحة مع المملكة العربية السعودية معارضة من الجبهة الصامدة الحليفة للحرس الثوري الإيراني. ومن المرجح أن يؤدي صعودها إلى تثبيط الحماسة للمصالحة مع دول الخليج، ولا سيما التقارب الإيراني السعودي.

في المقابل، من المرجح أن تسمح الهيمنة المتزايدة للبيروقراطية العسكرية والجبهة الصامدة، المعروفة بدعوتها إلى التعاون الاستراتيجي الوثيق مع روسيا، إلى تسريع مسار التكامل الإيراني الروسي، إذ سبق أن أيدت التعاون العضوي في مجال الأمن السيبراني مع روسيا ودعمت بقوة تزويدها بالمعدات العسكرية ومشاركة الحرس الثوري في تعاون عسكري واسع معها.

لكن نتائج الانتخابات لم تحسم الصراع قط. بل فتحت الباب لمعارك محتدمة، سواء على جبهة الدولة أم المجتمع أم مراكز القوة والثروة.

تختبر إيران التي تتمتع بواحد من أكثر المجتمعات دينامية في الإقليم، تحولات عميقة. وتعكس هذه التحولات مستوى التشقق في القاعدة الاجتماعية، والعقد الاجتماعي المؤسس. العامل الرئيسي في ذلك هو قيام الباسدران، المتحالف مع البيروقراطية ورجال الأعمال الطفيليين، بتهميش البازار، ورجال الأعمال التقليديين، إضافة للطبقة المتوسطة المدينية الواسعة. بل يسود الشعور بالاغتراب قطاعات مهمة من الشباب في الريف والضواحي، لتنمو من خلالهم نقمة المكونات القومية والدينية الأقل حظاً.

نعم، في لحظة إقليمية ودولية فارقة، تضيف التحولات الإيرانية قدراً كبيراً من عدم اليقين حول مصائر صراع السلطة والثروة في إيران، بقدر ما تثير من تساؤلات حول دورها وتحالفاتها وموقعها المستقبلي في الإقليم.