التحقت بجامعة القاهرة سنة 1969. كانت مصر تخوض معارك الاستنزاف ضد إسرائيل. الطائرات الإسرائيلية تقصف القاهرة وما حولها ومدناً مصرية أخرى. زجاج النوافذ يغطيه اللون الأزرق، والعمارات تعلو أمام مداخلها الأكياس المعبأة بالرمل. جرى ترحيل سكان منطقة القناة إلى مدينة القاهرة، ومدن مصرية أخرى. كانت الحياة في جميع مظاهرها عادية، ومعنويات الناس عالية جداً. الجميع كان يؤمن بأن النصر قريب. في السنة الأولى بقسم الصحافة، التحقت بصحيفة «الأهرام» للتدريب على الإخراج الصحافي. كان مقرها الجديد يوحي كل شيء فيه بالحداثة والفخامة، ووجود الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل على رأسها، أعطاها سمتاً فخماً له حضور خاص. نجوم الأدب والفكر لهم طابق خاص بهم: نجيب محفوظ. توفيق الحكيم. يوسف إدريس. صلاح جاهين. كنَّا خمسة من الطلاب المتدربين في الصحيفة. قال لنا المشرف على التدريب في ظهيرة أحد الأيام: ستزورون اليوم نخبتنا الخاصة الكبيرة. رافقناه وصافحنا الكبار الذين كنا نعرفهم من دون أن نراهم. كان ذلك بالنسبة إلينا جميعاً يوماً تاريخياً خاصاً. طلبنا من المرافق أن يحدد لنا موعداً مع رئيس مجلس إدارة «الأهرام» ورئيس تحريرها محمد حسنين هيكل. مقابلة صاحب قلم - بصراحة - شهادة ووسام لشباب يعدون أنفسهم للدخول في حلبة صاحبة الجلالة. وعدنا المرافق خيراً لكن المقابلة لم تتم. في السنة الثانية، كانت مصر تموج بأحداث ساخنة كبيرة. رحل الرئيس جمال عبد الناصر، ووقفت حرب الاستنزاف بعد قبول مشروع روجرز، وقام الرئيس أنور السادات بإزاحة السياسيين الذين كانوا رجال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ورفع شعار ثورة التصحيح. تحركت مظاهرات الطلاب في بعض المدن المصرية، تهتف لتحرير الأرض المحتلة. شاركتُ في بعض المظاهرات أمام جامعة القاهرة، وتعرضت لضربة خفيفة من أحد أفراد الشرطة. التحقت بالتدريب في دار «أخبار اليوم» على استقاء الأخبار من مصادرها. رافقت صحافياً متمرساً في المهنة، وله علاقات واسعة مع شخصيات سياسية واقتصادية وأدبية. قال لي يوماً: سنذهب معاً لمقابلة شخصية ستسعد بلقائه وتعرف منه الكثير، لكن كل ما ستسمعه ليس للنشر.
ذهبنا بسيارته إلى منزل حسن إبراهيم العضو السابق في مجلس قيادة الثورة، وأحد الضباط البارزين في تنظيم الضباط الوحدويين الأحرار. استقبلنا هشاً بشاً، وقال مبتسماً: أنا اليوم سعيد بلقاء أحد أبناء العمومة. وتحدث عن أصوله الليبية التي يعتز بها، وعن عمله بليبيا لسنوات بعد تركه للعمل السياسي، ولماذا غادر ليبيا بسرعة بعد استيلاء الضباط الشباب على السلطة فيها. تحدث حسن إبراهيم عن زملائه في الثورة. قال إن جمال عبد الناصر كان زعيماً وطنياً قوياً وذكياً وشجاعاً، لكنه لا يتراجع عن قراراته ولا يقبل الرأي الآخر. أما السادات فهو داهية ذكاء، وسياسي بكل ما في الكلمة من معنى. مغامر بحساب. ما قضاه في السجن أكثر مما قضاه في معسكرات الجيش، وعرف كيف يستولي على قلب وعقل جمال عبد الناصر. تحدث عن الحروب العربية - الإسرائيلية، وكيف تُتخذ قرارات الحرب في تل أبيب، وفي العواصم الحربية. وسمعت منه بيت شعر لحافظ إبراهيم ما زلت أتذكره: رأي الجماعة لا تشقى البلاد به ... رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها.
الأنظمة الديمقراطية تنتصر غالباً، أما الأنظمة الديكتاتورية فهي تندفع إلى الهزيمة اندفاعاً. زرت الضابط حسن إبراهيم بعد ذلك مرات بإلحاح منه، وفي كل مرة يعبر عن عدم رضاه عن تبني ضباط ليبيا الشباب لأفكار جمال عبد الناصر، ويكرر إعجابه بشخصية وسياسة الملك إدريس السنوسي. أسرني بهدوئه ومعرفته، واعتزازه بأصوله الليبية، لكن في داخلي كنت قد صنفته بالرجعي، المعارض للقائد الذي أجله وأكبره، جمال عبد الناصر. في السنة الثالثة بقسم الصحافة، تدربت على التحقيق الصحافي بدار «الهلال» التي كان يترأسها آنذاك الصحافي والكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، حيث وجدت بيئة صحافية أخرى. أسرة صحافية هي في الواقع عائلة. العاملون كبارهم وصغارهم يعاملون بعضهم كإخوة، وأحمد بهاء الدين بينهم ليس رئيساً، بل هو الأخ البسيط اللبق. أعددت تحقيقاً عن لجنة الوحدة التي كانت تعمل في القاهرة، وكانت تضم مجموعة من السياسيين والخبراء الليبيين، وتم نشره في مجلة «المصور».
سنوات المواجهة وحرب الاستنزاف، ومظاهرات الطلاب التي تستعجل الحرب على إسرائيل، وخطابات الرئيس أنور السادات التي يصدح فيها بحتمية المواجهة إذا لم تقبل إسرائيل مبادراته السلمية؛ كلها لم توقف جمال الحياة وفرحها. سهرات أم كلثوم الشهرية، وحفلات فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد ومحمد قنديل وغيرهم، لا تتوقف أيضاً. زميلي أحمد البكوش كان يصر على حضور حفلات أم كلثوم، ونشتري التذاكر من أمام سينما «قصر النيل». كنت وما زلت أعشق كلمات الشاعر الكبير أحمد رامي، وألحان الموسيقار الخالد رياض السنباطي. كان الجمهور الذي يملأ سينما «قصر النيل»، يصفق ويهتف مدهوشاً للزعيمة أم كلثوم، الصوت السحري الفريد.
سألت أستاذنا الدكتور إبراهيم إمام رئيس قسم الصحافة، وكان شخصية مرحة ولطيفة، لا تفارقه القفشات والنكات، وعلمه واسع كبير في الصحافة. سألته عن سر ومبررات مظاهر الفنون والغناء التي تملأ دنيا البلاد وهي تعيش حالة الاستعداد لحرب قد تكون قريبة. أجاب الدكتور إبراهيم إمام، بأن الحروب جزء من تفاعلات الحياة، مثلها مثل أي سلوك يشتبك فيه الناس طيلة حياتهم. استحضر معلومة قديمة، وهي أن الحكومة المصرية، وتحديداً وزارة الإعلام، أوقفت الأغاني العاطفية بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967. ذهب الوزير عبد المنعم القيسوني إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وقال له: كنتُ طالباً بجامعة بريطانية أيام الحرب العالمية الثانية. الطائرات الألمانية تقصف لندن من دون توقف، لكن المسارح لم تتوقف، والإذاعات تبث الأغاني بكل أنواعها، والمراقص يرتادها الصغار والكبار. الفن قوة شحن للناس ويحفزهم على الصمود والمقاومة، من أجل تحقيق فرحة الحياة. اقتنع الرئيس جمال عبد الناصر بما سمعه من عبد المنعم القيسوني، وأمر ببث جميع الأغاني بما فيها العاطفية، وتشجيع المطربين على إقامة سهراتهم، ونشطت الحياة المسرحية بقوة، وعُرضت مسرحيات جريئة تلسع جوانب من الحياة بما فيها الجوانب السياسية. في سنة 1973 حققت مصر نصراً مؤزراً، اعتقد الكثيرون أنه مستحيل. مصر لها كيمياء إنسانية فريدة، تخلَّقت عبر آلاف السنين. لها قدرة على الصبر والإبداع والمقاومة. سنوات لا ترحل مع قافلة الزمن الطويلة. ذاك هو الزمن الذي أبدعه عداده المصري الفريد.
التعليقات