كلنا يعرف أن اليابانيين شكلوا بعثة للاستفادة من تطور مصر في حقبة من حقبات ازدهارها. غير أننا قليلاً ما نذكر أنها أرسلت بعثات أخرى لزيارة أكثر البلدان تطوراً. منها زيارة كل من المهندس الميكانيكي إيجي تويودا وزميله المهندس الميكانيكي تاييشي أنونو أميركا في عام 1943 لدراسة طرق التصنيع الحديثة، ومنها قضية شغلت بال اليابانيين واشتهرت بها المصانع الأميركية وهي إنتاج الكم. وهو مفهوم شهير يقضي بأنك عندما تنتج كميات هائلة تنخفض عليك تكلفة الواحدة. وهذا من أحد أسرار الانفجار التصنيعي الهائل في الصين الذي حوّلها لاحقاً إلى مصنع العالم.

كان هدف اليابانيين معرفة كيف تستفيد شركة فورد من تلك التقنية أو آلية التصنيع في تخفيض التكلفة. ولأن الزيارات الهادفة والممنهجة عادة ما تفتح آفاق الذهن إلى تجارب أخرى، فقد ألهمت اليابانيين محال السوبرماركت الأميركية في قضية أخرى وهي كيف يلتقط الزبائن من الرف ما يحتاجونه فقط، ثم سرعان ما يقوم الموظفون بتعبئة الأرفف بسرعة ودقة لافتة. كان الأمر آنذاك في العالم غير شائع. وهذا ما دفع اليابانيين إلى وضع فكرة مشابهة في نظام شركة تويوتا الداخلي من خلال ما أطلق عليه مصطلح "كاتبان" (Kanban) الحركة لإسناد نظام في الوقت المناسب Just-in-time أو ما يختصر بحروف JIT. ثم ذاع صيتها عالمياً. وأدرسها للطلبة في الجامعة في التخطيط الاستراتيجي لأنها من أكثر الطرف الفعالة في إدارة المخزون، وكذلك تقليل الكميات الهائلة من المنتجات المكدسة. وهي الفكرة نفسها التي يقوم عليها توصيل الحليب إلى المقاهي، فلا داعي لأن تخزن المقاهي الحليب في ثلاجات ضخمة في ظل إمكان توفير ما تشاء في الوقت المناسب من المورد الخارجي في أيام محددة من الأسبوع.

والأمر تطور تطوراً مذهلاً على يد اليابانيين، فلم تعد هناك حاجة للمصانع لأن تكدس مواد أولية في المصانع أو المخازن، فبعضها قد يتلف أو تنتهي صلاحيته. فقللوا بذلك التكلفة والوقت ورفعوا كفاءة سلسلة الإمداد والتصنيع. واتضح أنه مع هذه الطريقة لم تعد هناك حاجة لاستخدام معدات وآليات وكوادر بشرية أكثر. فالمورد يقدم ما نريد في الوقت المناسب. وقد أنعش ذلك أيضاً قطاعات أخرى، منها اللوجستي الذي ينقل تلك المواد، وزادت فرص العمل فيها كذلك.

ومن ثمرات رحلة اليابانيين إلى العالم المتطور أنهم اكتشفوا أن إنتاج الكم ليس دائماً فكرة رشيدة، فهناك العديد من المواد المهدرة في سبيل اللهاث وراء الإنتاج الغزير، ولذلك جاء اليابانيون بحلول أخرى، منها الإدارة الرشيقة lean والتي يمكنها بلوغ ذروة الإنتاج وجودته في أقل موارد ممكنة.

ينظر بعضهم إلى التجربة اليابانية على أنها استناد إلى التاريخ أو عظمة الشعب، لكن واقع الحال يقول إنها بلد عادي مثل سائر البلدان لكنها تعلمت من الحرب العالمية الطاحنة، وقررت أن تحدث نقلة نوعية تبهر بها العالم. ولا يحدث ذلك في أي بلد من دون أن تجوب الأرض بحثاً عن حلول اقتصادية، وتعليمية، وتصنيعية وإدارية.

هكذا نتقدم.