ما هي يا ترى المفاتيح التي يمكننا أن نضعها بين أيدي المواطنين كي ينخرط مجتمعهم في المعاصرة الثقافية والحضارية؟ وما المقصود بمجتمع يتمتع بصحة جيدة ثقافياً؟ وما مؤشرات مجتمع يتمتع بمثل هذه العافية؟
حين نصنع قارئاً جيداً فإننا، وبشكل حتمي أوتوماتيكي نبني مواطناً جيداً، يؤسس لمجتمع في صحة جيدة ثقافياً واجتماعياً ونفسياً، قادر على مواجهة مواسم الجوع والأوبئة والحروب والخوف والخيانات.
حيث تحضر القراءة المبدعة الإيجابية، بين أوساط الأطفال والشباب والكهول من النساء والرجال، فاعلم بأن مجتمعاً حياً متجدداً فتياً وعصياً على وشك التشكل أو قد تشكل، واعلم بأن تاريخ هذا المجتمع القارئ يتقدم بالضرورة نحو آفاق منيرة وأيام سعيدة.
إن قراءة كتب الروايات والشعر والفلسفة والتاريخ، أي كل ما يمكن أن يصنف في خانة الآداب الإنسانية والفكر النقدي العقلاني، هو علامة على حال من الوعي المنتشر الفردي والمجتمعي، فالمجتمع الذي ينتج قارئاً جيداً ينتج بالضرورة مواطناً جيداً وصلباً قادراً على مواجهة الأيام العسيرة.
يمكن اعتبار مجتمع، أي مجتمع، معافى ثقافياً حين تسمح فضاءاته العمومية بحضور واضح وحر لعملة الفكر من الفلاسفة ولرسل الخيال المتدفق من الفنانين، كل ذلك في جو يسوده الاحترام والاستماع والنقاش لمجمل اجتهادات صانعي الرأسمال الرمزي، وفي ذلك يحرص الجميع على الدفاع عن حرية التعبير وحرية الرأي والحق في الاختلاف.
إن المجتمعات التي تتمتع بوضعية صحية ثقافياً هي تلك التي تحيل، من دون خوف أو تردد، أسئلتها الوجودية والاجتماعية والسياسية والجمالية على نخبها التنويرية المنشغلة بمسألة الوعي والتوعية الفردية والجماعية وأيضاً على صناع الطاقة الخيالية من الفنانين، تلك الطاقة المنقذة للمواطن من مستنقع الروتين والركود والكسل.
في المحصلة، تتميز المجتمعات المثقفة بظاهرة أساسية هي تثمين الوقت واحترام قيمة العمل المنتج، فالمجتمع الذي يحترم فيه المواطن فلسفة الوقت يتحول العمل إلى عامل أساسي في تحرير العبقرية الفردية والجماعية.
كل مجتمع يعتبر الوقت ذهباً، هو مجتمع من ذهب.
إن المجتمعات المثقفة، هنا الثقافة بمفهومها الفلسفي، هي تلك التي تكون فيها المعركة يومية ضد الكراهية والعنف بكل أشكاله كالتحرش والعنصرية الإثنية واللغوية والدينية.
حين تكون المرأة حرة في مجتمعها، مالكة مباشرة لمصيرها ولجسدها، متساوية في الواجبات والحقوق مع الرجل، حين يكون "قتل الإناث" féminincide، باسم الشرف أو العيب أو التبعية أو باسم الجنساوية، جريمة بشعة ومطلقة ومنافية للحق في الحياة، فاعلم بأنك في مجتمع على طريق النمو الثقافي، حيث الإنسانية والعدالة هما عملته الحية والأولى.
إن الموسيقى الكلاسيكية هي نمط قراءة أخرى للعالم وللذات، إنها القراءة العالمية الموحدة والعابرة للغات والقوميات، الموسيقى هي الفن الوحيد الذي يقرأ من دون حاجة إلى الترجمة، إن فصاحة الموسيقى فوق كل الفصاحات اللغوية الجهوية، إننا ندخل العالم ونخاطبه ونعيشه ونتخيله من خلال الموسيقى الكلاسيكية بالطريقة نفسها التي يسلكها الآخر المختلف عنا لغة وديناً وجغرافية وعرقاً، هي أكثر الفنون التي تقرب بين الناس من دون وسيط مشوه أو مخرب أو رقيب، لذلك فالمجتمعات الحية المتفتحة التي تتمتع بحياة ثقافية عالية مفتوحة على الكنوز الجمالية والفكرية العالمية هي التي تحتفل بالموسيقى الكلاسيكية وتقدرها وتتمتع بها.
والمجتمعات التي تسمو فيها حضارة العين، هي تلك التي تزدهر فيها أروقة العروض التشكيلية، الغالريهات، وتكثر، وكل مجتمع يقدر الفنون الجميلة هو مجتمع ينظر إلى العالم بقلبه وبعقله، وعينه تشكل جزءاً أساسياً في القراءة.
إن المجتمع الذي لا يملك حضارة العين، مجتمع أعشى، ومجتمعاتنا العربية والمغاربية تعاني ظاهرة ضعف حضارة العين، فحين يضعف حضور الفن التشكيلي في الحياة الثقافية ينعكس ذلك على الفنون الأخرى، وهو ما نلمسه في نصوصنا الأدبية السردية والشعرية حيث العين غائبة أو تكاد.
إن الاستماع والاستمتاع بالموسيقى الكلاسيكية، لموزارت وبيتهوفن ورخمانينوف وباخ وغيرهم، وزيارة المعارض التشكيلية لتأمل "غرنيكا" لبيكاسو أو "الموناليزا" لليوناردو دا فينشي، أو "فتاة الجوهرة" ليوهانس فيرمير، أو "لوحة الليل" المرصع بالنجوم لفان غوغ، أو لوحات سلفادور دالي، أو كلود موني، أو رونوار، أو أوجين ديلاكروا، أو فرانسيسكو غويا، وغيرهم. هذه القراءة بالأذن وتلك الأخرى بالعين هو ما يجمعنا مباشرة مع الآخر حول كنوز العالم الإبداعية، وهو مؤشر على مواطن فاعل وإيجابي وذكي وقابل للعيش المشترك.
هناك مهن جمالية وثقافية تبدو هامشية لكنها كلما وجدت في مجتمع فهي تدل على أن هذا المجتمع في حالة ثقافية معافاة وبناءة، وعلى رأس هذه المهن مهنة بائعي الزهور، فالمجتمعات التي تحتفل بالورود والفنون والغابات هي مجتمعات غير قاحلة، منتجة ومتسامحة، والمواطن الذي يقتني الورود للإهداء أو لمتعة الخاصة أو يزرعها ويرعاها، هو مواطن من فصيلة عالية الذوق.
إننا نقرأ الكتب فنغرف منها القيم الإنسانية الكبرى لنتقاسمها مع غيرنا، ولكي ندافع عنها وننخرط فيها ونمارسها على مستوى السلوك اليومي، ومن بين هذه القيم الدفاع عن حقوق الحيوانات، لأن الحياة في جوهرها خلقت للجميع بشراً وحيوانات ونباتاً، وانقراض جزء منها يخل دورتها الطبيعية ويربكها، والمجتمع الذي يحترم حقوق الحيوان مجتمع بصحة ثقافية وإنسانية عالية، مجتمع يحميه الوعي الجمعي الذي تحميه القراءة الجادة الخلاقة.
لكن لن تتحقق القراءة التي تصنع المواطنة التشاركية، وتكون أجيالاً من المواطنين المنتجين إلا إذا توفر في المجتمع نظام مدرسي صارم، ببرنامج تعليمي معاصر ونقدي، ففي المدرسة نتعلم الدفاع عن قيمة المساواة بين الرجل والمرأة، نتعلم احترام الوقت والعمل المنتج، في المدرسة نتعلم حب الحيوانات، وحماية الغابة، وقراءة الآداب الإنسانية، ومساندة بائعي الزهور، هذه المجموعة البشرية المهنية التي عانت الويلات في العشرية السوداء بالجزائر من أعداء الجمال، نتعلم فلسفة العيش بسلام مع الآخر المختلف عنا، ومحاربة العنف بكل أشكاله ومقاومة العنصرية، وفي المدرسة نتعلم الاحتفال بالعقل وفلسفة النقد وحب الحياة والكتب.
التعليقات