أمور في الواقع الدولي والإقليمي الحالي لا أفهمها جيدا، إما لأنها تتخطّى طاقتي على التحليل و إما لأنها تصطدم ببديهيات ومعايير أعتبرها واضحة، فلا أجد لها تبريراً:
1- كيف تقبل الأوروبتان الغربية والشمالية أن تجعلهما السياسة الأميركية ضد روسيا مسرحا لأكبر حرب في قلب أوروبا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية رغم معرفتهما بأن العدوانية الروسية ضد أوكرانيا جاءت نتيجة الإصرار الأميركي على ضم أوكرانيا إلى حلف "الناتو" مع كل التحذيرات التي أطلقتها موسكو على مدى سنوات وقبل شنها الحرب في أوكرانيا من أن توسيعَ حلف "الناتو"،وهو حلف عسكري، بهذا الشكل سيعني خطرا مباشرا على الأمن القومي الروسي.وهذا ما أكده خبراء استراتيجيون أميركيون معارضون للسياسة الأميركية في أن نشر صواريخ "الناتو" في أوكرانيا سيختصر المدة المتاحة لموسكو للاستشعار في حال حصول ضربة نووية على روسيا إلى خمس دقائق وآخرهم السفير الأميركي السابق "تشاس دبليو فريمن جي آر" في محاضرة له في جامعة براون في 26 أيلول الماضي. إنه اتجاه حِصاري (من حصار ) لروسيا متصاعد مع انضمام السويد وفنلندا للحلف الأطلسي في أقصى الشمال لتطويق روسيا مثلما حصل عمليا في أوكرانيا، دون إدخالها شكلاً في "الناتو"، من جنوب أوروبا.
الذي لا أفهمه تحديدا هنا ليس إدانة أوروبا الغربية غزو روسيا لأوكرانيا، فهذه الإدانة أمر طبيعي في التضامن الأطلسي، لا بل أتفهمها، مثل كثيرين، في تاريخ العلاقات الأميركية الأوروبية كما أتفهّم أصلا أن يكون الرئيس فلاديمير بوتين، كحاكم مسيطر على السلطة، نموذجا غير مقبول في الغرب الديموقراطي. ولكن ما لا أفهمه هو كل هذا الحماس الذي تبديه دول كبرى هي ألمانيا وفرنسا (وطبعا بريطانيا) في الحماس اللوجستي للحرب دون أدنى اعتراض، خصوصا فرنسا وألمانيا، على استمرار التجييش الأميركي للحرب التي يخوضها الشعب الأوكراني (وليس الأميركي) مع ما ينتج عنها من تشريد ملايين في قلب أوروبا والثمن الاقتصادي والبشري الذي تدفعه أوروبا ويهدد استقرارها وسلامها عميقا.
باستثناء قلة من المثقفين المعترضين بينهم البروفسور الأميركي جون ميرشماير والفرنسي إيمانويل تود دون ذكر الراحل هنري كيسنجر واعتراضاته على الحرب في الأساس، لا نسمع أي تحفظ أوروبي ولا نشاهد مساعي ديبلوماسية جادة للتفاهم مع روسيا على إيقافها. ولا أفهم كيف يستفيد الغرب من حرب أوكرانيا التي أدت إلى تمتين متصاعد لمحور تحالفي خطير بين روسيا والصين وإيران مع ما يجره هذا المحور وراءه من دول مثل كوريا الشمالية وفنزويللا وبعض جيوش دول إفريقية المتحفزة لاستلام السلطة أو هي استلمَتْها فعلا في منطقة "الساحل" الصحراوي؟
في ما يتعلق بالمشهد في أوروبا، هل هو لغز التبعية الأوروبية لواشنطن اقتصاديا سياسيا؟ وما هو هذا اللغز الذي يمنع ظهور إرادة سياسية أوروبية تعترض أو تتحفظ على نهج استمرار السعي لاستسلام روسي أو هزيمة روسية لن تحصل؟ ولماذا ظهرت تحفظات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على السياسة الأميركية المتشددة حيال الصين ولم تظهر حيال روسيا؟ التحفظات في الكواليس موجودة طبعا هنا أو هناك من بعض الحكومات الأوروبية، لكن المسألة أن واشنطن تجر معها القوى الأوروبية غير القادرة على أي تحفظ علني. آلية هذا الجر الأميركي لأوروبا يجب أن ندرسها كفايةً وبعمق لنتمكّن من فهمها؟
كل ما كانت تطلبه روسيا قبل الحرب هو اعتبار أوكرانيا منطقة محايدة لا تحمل تهديدا لموسكو، ومع ذلك تواصلت السياسة الأميركية في تشجيع أوكرانيا والعناصر الأكثر تطرفا فيها ضد روسيا ومعها استمرت دول أوروبا الغربية الكبرى والشمالية في الدعم "الأعمى" للسياسة الأميركية. (ظهرت اعتراضات بعض الدول في الاتحاد الأوروبي على سياسة الاتحاد في "تقاسم" المهاجرين).
يقول السفير فريمان أن الحرب الأوكرانية لم تجعل أوروبا أكثر أمانا. كما لم تُقَوِّ القيادة الأميركية للعالم، بل أظهرت نظاما عالميا متعدد الأقطاب أهمه المحور الروسي الصيني الإيراني المضاد لأميركا.
الأمور الأخرى التي لا أفهمها هي في المشهد الإقليمي الشرق أوسطي.
2- طبعا يستطيع المرء أن يفهم أسباب استمرار السياسة الأميركية والأوروبية الغربية ضد النظام في سوريا كجزء من استراتيجية إعادة رسم الشرق الأوسط الجديد كما ضد السياستين الروسية والإيرانية. لكن لا أفهم، بل فعلا لا أستطيع أن أفهم، كيف يتتابع الدعم الأوروبي الغربي لاستمرار حرب هي الحرب السورية هجّرت ولا زالت تهجّر ملايين البشر ونحو أوروبا. واللغز الأكبر كيف تتسامح أوروبا مع إحدى النتائج الأكبر المتواصلة لهذه الحرب وهو النزوح السوري الضخم إلى لبنان وفي لبنان، وهو نزوح يهدد مباشرة أوروبا القريبة، ولماذا تمنع أوروبا حكومة هشة مثل الحكومة اللبنانية من محاولة إعادة فعالة للنازحين وإحدى وسائلها في ذلك منع تواصل الحكومتين اللبنانية والسورية ؟ كيف لا يكون الاستقرار في دول منهارة حول حوض البحر الأبيض المتوسط شرقه وجنوبه هدفا استراتيجيا وقد أصبح هذا الحوض بحيرة من الأسماك المتوحشة التي اعتادت افتراس ألوف المهاجرين الذين يحاولون اختراق أسوار أوروبا؟
3 - لا أفهم ما المصلحة الأوروبية بل حتى الأميركية، من تعريض الديموغرافيا اللبنانية إلى خطر وجودي فيما استراتيجياً لن يؤدي ذلك إلى التخفيف من محاولات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. ما هو السبب الحقيقي لهذا الموقف الذي يتطلب فعلا دراسة تتناول الرؤية العميقة وراء الموقف الخطير على لبنان وعلى سوريا أبعد من مجرد الإصرار الأميركي الأوروبي على عدم التسوية مع النظام السوري. ولا أفهم أكثر عدم وجود سياسيين لبنانيين يأخذون مبادرات تواصل مع الحكومة السورية لمعالجة تفاقم معضلة النزوح السوري بأبعادها المتعددة.
المشهد الشامل للشرق الأوسط وامتدادا إلى القوقاز مخيف (ناهيك عن الحالة الإفريقية) في حراكه الديموغرافي بين حروب وفقر وتخلف وسياسات دولية كيف نعرف أو نتأكد أنها ليست متورطة في ذلك.
4 - لا أفهم التحييد الأميركي المتواصل لإيران منذ 7 أكتوبر وفي حرب غزة تحديدا رغم أن إيران لا تحيِّد نفسها سوى بإعلان شعار أنها لا تريد توسيع الحرب إلى المنطقة. وقد جاءت "المواجهة" الإيرانية الإسرائيلية التي تبيّن أنها مضبوطة ضمن التصعيد العسكري بشكل مدهش لتزيد اللغز لغزاً.
ولا أفهم تاليا كيف استمر ضبط الحرب في جنوب لبنان أكثر من ستة أشهر حتى الآن رغم استمرار تهجير عشرات آلاف السكان على كل جانب ورغم الخسائر البشرية على الجانبين خصوصاً على الجانب اللبناني؟
التعليقات