كما الشرق الأوسط، تعتبر منطقة القوقاز عموماً والجنوبي منها خصوصاً منطقة اضطرابات وحروب وصراعات محلية وإقليمية ودولية ولا تستقر على هدوء حتى تنفتح الجراح على دماء تسيل مدراراً.
تتوزع منطقة القوقاز الجنوبي بين أربع قوى رئيسية هي أذربيجان وأرمينيا وإيران وتركيا وخلفها جميعاً أو بموازاتها روسيا بكل حقباتها القيصرية والسوفييتية وأخيراً الروسية. والصراع في القوقاز هو صراع الهويات والجغرافيا والتاريخ. وغالباً ما كانت تنتقل الأرض من يد إلى أخرى في ادعاءات مختلفة.
أثّرت الحرب العالمية الأولى بنتائجها على خريطة المنطقة. وإذا كانت الثورة البلشفية بزعامة فلاديمير لينين قد أفضت إلى فضح سرية اتفاقيات سايكس بيكو الذي خرّب منطقة المشرق العربي وأدخلها في دائرة الاحتلالات الإنجليزية والفرنسية بعد انسحاب روسيا منها، فإن نهاية الحرب العالمية الأولى انتهت إلى تأسيس أحد أكبر القوى السياسية في العالم على مدى سبعين عاماً وهو الاتحاد السوفييتي. وما كانت مشاريع استقلال وحروب بين دول نشأت على أنقاض انسحاب الجيش القيصري الروسي مثل أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، انتهت إلى اختفاء هذه المشاريع التي لم تدم سوى سنوات قليلة بل قل أشهراً معدودات. وانضوت هذه الجمهوريات ضمن الاتحاد السوفييتي بقيادة الأحزاب الشيوعية فيها.
وكان لقيادة موسكو الشيوعية الكلمة العليا في تغيير الخرائط الجغرافية والبشرية ومن أبرزها رسم الحدود بين الدول الثلاث تلك، في مطلع العشرينيات، على ما انتهت إليه لدى تفكك الاتحاد السوفييتي أي جمهوريات أرمينيا وأذربيجان وجورجيا.
غير أن هذا الوقع لم يرق للعديد من هذه الدول وبرزت في الواجهة أرمينيا ومعها الأرمن التي كانت ترى أن ما رسمه وزير القوميات عام 1922 جوزف ستالين ألحق الظلم بأرمن القوقاز عندما اعتبر منطقة قره باغ منطقة حكم ذاتي وألحقها بجمهورية أذربيجان وعندما اعتبر أن الأراضي التي تفصل بين جمهورية أرمينيا ومنطقة قره باغ أراضٍ أذربيجانية. فقد كانت أرمينيا تعتبر تلك الأراضي جزءاً من أرمينيا الكبرى ولم تكن تابعة أبداً لأذربيجان بل لروسيا القيصرية. حتى إذا ما تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 كانت المنطقة مدار حرب طاحنة انتهت إلى سيطرة الأرمن الكاملة على قره باغ والمناطق التي تفصلها عن أرمينيا ليحقق الأرمن للمرة الأولى سيطرة على أكبر مساحة ممكنة عبر تاريخهم الحديث في القوقاز الجنوبي. وكان أن أعلن أرمن قره باغ عام 1991 استقلال قره باغ تحت اسم «جمهورية أرتساخ».
استمر الوضع على هذه الحال حتى العام 2020 عندما شن الجيش الأذري هجوماً واسعاً في أواخر سبتمبر على قره باغ والأراضي التابعة قانونياً لأذربيجان والتي كانت تسيطر عليها القوات الأرمنية. وانتهت الحرب إلى انتصار تاريخي لباكو بقيادة إلهام علييف عندما استرجع كل الأراضي من الجيش الأرمني كما استعاد نصف مقاطعة قره باغ ومنها مدينة شوشة المهمة.
وانتهت الحرب في العاشر من نوفمبر بعد 44 يوماً من المعارك باتفاقية في غاية الأهمية تتخلى فيها أرمينيا عن ادّعائها بأراضي قره باغ وتلك التي كانت تحتلها. كما تتعهد بإقامة ممر بري من نخجوان الأذرية على الحدود التركية إلى أراضي أذربيجان عبر الحدود الأرمينية وعرف باسم ممر زينغيزور، على أن تتولى قوات روسية من نحو ألفي جندي مراقبة وقف النار في ما تبقى من قره باغ خارج السيطرة الأذرية وعلى امتداد ممر زينغيزور.
وعلى الرغم من الهزيمة الأرمينية فإن الشعب الأرمني في أرمينيا جدد في الانتخابات النيابية المبكرة التي جرت في العام التالي لحزب «العقد المدني» الحاكم الذي يتزعمه رئيس الوزراء نيكول باشينيان والذي كان مثار انتقاد الشتات الأرمني ونصف الداخل الأرمني نظرا لدوره «المتخاذل» في التصدي للهجوم الأذري.
وفي 19 سبتمبر الماضي كانت الحرب الثانية بين باكو ويريفان عندما أطلق علييف حملة عسكرية مباغتة على قره باغ واسترد ما تبقى منها في يوم واحد وكانت النتيجة المباشرة هروب الأرمن الجماعي في المقاطعة وعددهم 120 ألفاً إلى أرمينيا خوفاً من ارتكاب الأذريين المجازر بحقهم، لتفرّغ قره باغ بالكامل من أرمينيا للمرة الأولى منذ أن تواجدوا فيها منذ آلاف السنين.
كل هذه الحروب الدموية لم تكن تعني انتهاء التوترات، لأن الشرط الأذري للسلام كان توقيع اتفاقية نهائية ترسم الحدود الجغرافية بين أرمينيا وأذربيجان كما إعلان باشينيان أن يتخلى نهائياً عن أي مطمع في الأراضي الأذرية.
وهذا ما كان في 19 ابريل الماضي في لقاء بين وفدي البلدين في موسكو. وبدأ الطرفان في ترسيم الحدود عملياً والذي قضى حتى بإعادة أربع قرى كانت تتبع أرمينيا منذ العام 1991 إلى أذربيجان. ويمكن من خلال ذلك القول إن الحدود ترسم بين البلدين بشكل نهائي وبموافقة الطرفين للمرة الأولى ليكون ذلك الخطوة الأهم لسلام دائم في المنطقة.
وقد أعقب كل ذلك اتفاق باكو وموسكو على انسحاب قوات المراقبة الروسية من قره باغ وجنوب القوقاز لأنه لم يعد لها أي وظيفة ليبقى قائماً جوهر المشكلة الأرمنية وهي أن تعترف تركيا بأن المجازر التي ارتكبها العثمانيون عام 1915 ضد الأرمن وذهب ضحيتها أكثر من مليون أرمني كانت «إبادة» بقرار رسمي. فهل يفتح اتفاق الحدود بين باكو ويريفان الباب أمام مصالحة بين الأرمن وبين أنقرة حول مختلف العناوين الخلافية؟ وما ستكون عليه مواقف مختلف الأطراف الإقليمية والدولية من ملامح المرحلة الجديدة في المنطقة؟
التعليقات