بيدرو سانشيز رئيس الوزراء الإسباني الخارج للتو من أزمة كادت ترمي به خارج السلطة التي قادها منذ 2018، فعلها مجدداً في كتالونيا هذه المرة. اشتغل منذ توليه مقاليد الأمور على الأزمة الانفصالية في كاتالونيا التي استعصى حلها على "الحزب الشعبي" المحافظ، وخرج بحلول مؤلمة لنزع فتيلها أثارت غضب كثيرين، بينهم رفاق قياديون كفيليب غونزاليس أول رئيس وزراء اشتراكي بعد رحيل الدكتاتورية. بيد أن الإقليم رضي بدوائه الناجع وأعطاه حصة الأسد من الأصوات في انتخابات الأحد الماضي. وأنهى ذلك احتكار تحالف الأحزاب الانفصالية للحكم المحلي منذ عشر سنوات وسلّم مفتاح السلطة للحزب الاشتراكي الكاتالوني بزعامة سلفادور إيّا، وزير الصحة السابق في حكومة مدريد.

ومع أن الاشتراكيين رفعوا عدد مقاعدهم في البرلمان المحلي من 33 إلى 42 (من أصل 135 مقعداً) فهذا لا يكفيهم لتشكيل حكومة بمفردهم. وهذا يهدد بفتح الباب على لعبة عض الأصابع من جديد مع كارليس بويغديمونت زعيم حزب "معاً من أجل كاتالونيا" (يونتس) القومي المتطرف. وهو خرج من الانتخابات بـ 35 مقعداً، أي أكثر مما كان لديه في الدورة الماضية بثلاثة مقاعد، وحلّ ثانياً في الترتيب العام. غير أن حليفيه في الحكومة الإقليمية، "حزب اليسار الجمهوري" المعتدل وحزب "ترشيح الوحدة الشعبية" اليساري المتطرف خسرا 18 مقعداً، ما جعل حصة الشركاء الانفصاليين الثلاثة تهبط من 74 إلى 59 مقعداً وجردهم من أغلبيتهم.

"يونتس" لا يقرّ له قرار. وهو يطارد حلمه المستحيل بالانفصال. كان مهندس عاصفة الاضطرابات التي ضربت كاتالونيا قبل نحو عشر سنوات حين أعلن زعيمه بويغديمونت، الذي كان يرأس الحكومة المحلية حينذاك، استقلال الإقليم بطريقة غير قانونية من طرف واحد. وفجر ذلك أزمة لم تشهد إسبانيا أعنف منها منذ عقود، إذ تعاملت حكومة "الحزب الشعبي" برئاسة ما ريانو راخوي مع الوضع بتشدد، فأقالت الزعيم الانفصالي وأرسلت آلاف عناصر الشرطة لقمع الانفصاليين وزجت بالكثيرين منهم في السجن. وبعدما شارك "يونتس" في الحكومة الائتلافية الأخيرة، عمل على دفعها إلى الانهيار على أمل الخروج من الانتخابات التالية ظافراً بأغلبية تسمح له بتحقيق هدفه الأسمى. إلا أنه عاد بخفّي حنين، مع أنه رفع رصيده رفعاً مثيراً للإعجاب. وهذا يعود إلى زعيمه الكاريزمي أكثر منه إلى الرغبة التي كانت يوماً عارمة بالانسلاخ عن إسبانيا.

تراجعت أسهم الانفصاليين لأسباب تأتي في طليعتها طريقة سانشيز المرنة في إدارة أزمة كاتالونيا منذ جاء إلى الحكم. أصدر في 2021 عفواً شمل 9 قادة مستقلين شاركوا في أحداث 2017 لتهدئة الأجواء وإزالة الاحتقان. ثم سنّ "قانون العفو" المثير لجدل أكبر من سابقه والذي يشمل نحو 400 سياسي في مقدمتهم بويغديمونت نفسه. ولم يهدف هذا العفو الذي لا يزال يلقى معارضة كبيرة، إلى ترسيخ السلام وبدء "العصر الجديد من الحوار والتفاهم" الذي تعهد الزعيم الاشتراكي إطلاقه في كاتالونيا. بل كانت له غايات أخرى، أبرزها الحفاظ على حكومة الأقلية التي يرأسها في مدريد من خلال اتفاق عقده مع الأحزاب الكاتالونية الثلاثة.

وعلى أي حال، خطف الزعيم الاشتراكي عن طريق العفو من يد الانفصاليين ورقة الضحية التي طالما لعبوها لكسب التأييد الشعبي. فالعفو لم يترك لهم "أبطالاً" مظلومين، وحوّل أنظار الناخبين في وجهة أخرى هي الخدمات العامة من طبابة وتعليم وإسكان، كما وفر لهم فرصة لتأمل مشكلات البيئة وسبل معالجتها، لا سيما مع انتشار الجفاف جرّاء احتباس المطر لثلاث سنوات. في هذه الأثناء، كانت أزمة تكلفة المعيشة الحادة تساهم في جعل الكثيرين منهم يدركون أن ثمة أخطاراً مباشرة تحدق بهم والتعامل معها أهم من الركض وراء حلم الانفصال البعيد المنال.

هكذا، في المحصلة، استطاع رئيس الوزراء بفضل تعاطيه الحكيم وبعد نظره أن يكسر شوكة الانفصاليين في الانتخابات الأخيرة.

ونتائج الأحزاب الأخرى مقلقة أيضاً. "الحزب الشعبي" المحافظ تقدم على الحزب الاشتراكي من حيث عدد المقاعد الجديدة في هذه الانتخابات. انتزع 12 مقعداً برلمانياً جديداً لتصبح كتلته في البرلمان المحلي وازنة تضم 15 نائباً. أما اليمين المتطرف فما زال قوياً بفضل استراتيجيته التي تعتمد التخويف وبث الفرقة واستهداف المهاجرين ومعاداة الإسلام. فحزب "فوكس" العنصري احتفظ بمقاعده الـ11 وهذا إنجاز لا بأس به. وهناك وافد جديد هو حزب "التحالف الكاتالوني" الذي فاز بمقعدين. وهذا يباري "فوكس" في العنصرية، لكنه يتناقض معه حول القضية الكتالانية، إذ إنه انفصالي يرى أن كاتالونيا يجب أن تكون حصراً للكاتالان. في غضون ذلك، يبدو أن اليسار المعتدل والمتطرف الانفصاليين عموماً يخسران، فيما يزيد اليمين المتشدد من حصته شيئاً فشيئاً.

انتصار اليسار الوطني الذي يحكم البلاد، لم يكن خالصاً، على الرغم من الإنجازات الكبيرة التي حققها. فهو لن يقدر على تشكيل الحكومة بسهولة، ليس فقط لأنه لا يملك الأغلبية، بل أيضاً باعتبار أن اليساريين المعتدلين في "حزب اليسار الجمهوري" الانفصالي الذي كان أكبر الخاسرين في الانتخابات، يصرون على البقاء في المعارضة وعدم دخول ائتلاف حكومي معه أو مع غيره.

والأخطر بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي هو إصرار بويغديمونت على استعادة منصب الرئاسة. لا يزال من السابق لأوانه شطب هذا السياسي العنيد الذي أحرز نتائج مشرفة على الرغم من وجوده في المنفى الفرنسي منذ 2017، مع أن الموجة الانفصالية التي كان يركبها قد اضمحلت. وهو حريص كما يبدو على ابتزاز رئيس الوزراء الذي لا يستطيع الاستمرار في الحكم من دون دعم نواب "يونتس" السبعة في برلمان البلاد، وجميعهم يدينون بالولاء لزعيمهم المشاكس. وكأن انتصار سانشيز في كاتالونيا وضع حكومته المركزية في مدريد على حافة الهاوية.

يصعب التنبؤ من الآن بمخرج لائق لسانشيز. لكن يبدو أن أمامه خيارين أحلاهما مر: المغامرة بسقوط حكومته، أو ترك القائد الانفصالي يشكل حكومة ويستعيد أمجاده على الرغم من أن رفيقه سلفادور هو صاحب العدد الأعلى من المقاعد في البرلمان. غير أن السياسي الذي صقلت مواهبه الأزمات والمغامر الشجاع، قد يربح الرهان مجدداً، بطريقة أو بأخرى. وليس مستبعداً أن يغوي اليسار الجمهوري (20 مقعداً) بالإضافة إلى حزبين يساريين (10 مقاعد)، أو الاثنين معاً، بتشكيل ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين، قبل أواسط آب (أغسطس) المقبل. وإلا سيتحتم على الإقليم أن يذهب إلى انتخابات جديدة لا يبدو أن أحداً يريدها كما يخشى أن تعمق الشروخ التي تغطي جسد الكاتالوني سلفاً.